السوق بين ضوابط الشرع ومزالق الواقع

د مراد باخريصة
1447/05/29 - 2025/11/20 12:07PM

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، الحكيم العليم، الذي جعل معاملات الناس ميزانًا يظهر فيه صدق الإيمان أو نقصه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالعدل والإحسان ونهى عن البغي والعدوان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي جاء بتنظيم حياة الناس كلها؛ عباداتهم ومعاملاتهم وأسواقهم.

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله…

كلكم يعلم أنه في كل مدينة، وفي كل قرية، وفي كل دولة، لا يخلو مجتمع من سوق.

فالسوق مكان تتلاقى فيه المصالح، وتختلط فيه الأعين والقلوب والنفوس.

السوق هو الموضع الذي يذهب إليه الناس لحاجاتهم اليومية، ومعه يحملون أخلاقهم، وديانتهم، وصدقهم، أو سوء أمانتهم.

فالسوق ليس مجرد مكان بيع وشراء فقط بل ميدان اختبار للإيمان، فيه يظهر التاجر الصادق من الغشاش، والأمين من الخائن، والنزيه من المستغل، والعفيف من المتلاعب.

لقد نظرت السنة النبوية إلى الأسواق نظرة شاملة، فكشفت آدابها، وضبطت أحكامها، وحذّرت من مفاسدها، وبيّنت أعمال الخير فيها بأتم بيان وأوضح برهان، والإسلام لم يترك الناس يدخلون الأسواق بلا ضوابط، لأن النفوس قد تضعف، والأعين قد تزيغ، والقلوب قد تتعلق، والأموال قد تغري.

أيها المسلمون: ورد في النصوص النبوية أحاديث صحيحة في التحذير من الأسواق، لأنها كما قال سلمان رضي الله عنه: "معارك الشيطان" لكثرة الكذب والغش فيها ومظنة اللغو والطغيان، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا"

فالنبي ﷺ لا يحرّم السوق، ولا ينهى الناس عن البيع، لكنّه يحذّر من المعاصي التي تكثر فيه، ففيه الغش في الأسعار، والكذب في المواصفات، وصور وعروض تحتاج إلى ضبط، وضجيج، وتبرج، واختلاط، ومزايدات تفسد الأخلاق، وأيمان كاذبة لا تنتهي، ولذلك فالتحذير النبوي ليس تحذيرًا من السوق ذاته، بل من المعاصي المنتشرة فيه.

عباد الله: لقد شرع الإسلام للسوق آدابًا ومن ذلك:

الإتيان بدعاء دخول السوق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من دخل السوق فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير» كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة. رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما.

وكذلك رد السلام وعدم الانشغال عنه، فينبغي لمن دخل السوق أن يحرص على ردّ السلام ولا يشغله عمله أو التجول في السوق عن رد السلام، وهذا من أعظم الأخلاق، لكن اليوم —يا عباد الله— كم يدخل الناس الأسواق فلا يُسَلّم أحدهم على أحد؟ بل ربما يزاحم، ويدفع، ويتعدى، وكأنه في معركة.

كذلك الإشعار عند دخول بعض المحال قبل الدخول على صاحب المحل لأنه قد يكون في حال لا يحب أن يطلع عليه أحد وهذا أدب رفيع، فكم نرى اليوم من يدخل متجرًا ضيقًا، أو محلًا للنساء، أو مكانًا خاصًا دون استئذان أو مراعاة!

وكذلك الحذر من التبرج والاختلاط المحرم، فإنه حري بالمرأة أن تحفظ نفسها ودينها فلا تخرج متبرجة بزينة لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة، وهذا واقع نراه في كثير من الأسواق اليوم وللأسف الشديد تبرج، ولباس لا يرضي الله، ومشي يلفت الأنظار،

والله تعالى يقول:﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ فلتتذكر المرأة المسلمة أنها مراقَبة من الله في كل خطوة.

ومن آداب السوق إتمام الحاجة والعودة بسرعة فلا يستحب طول المكث في الأسواق، وإنما يستحب التعجيل في قضاء الحاجة والخروج منها، والأسواق اليوم أصبحت مكانًا للترفيه والساعات الضائعة وخاصة عند بعض الشباب، وللو استحضروا هذا الأدب النبوي، لقضوا حوائجهم ثم انصرفوا، وقلّت الفتن، وغابت كثير من مظاهر الفساد الاجتماعي والأخلاقي المنتشرة في الأسواق.

ومن الآداب أيضًا ذكر الله في الأسواق لأنها موضع يغفل فيه الناس، فيا ليت المسلم إذا سار في السوق ذكر الله، أو قال دعاء دخول السوق، أو كبّر في أيام العشر كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم.

ولنحذر كل الحذر من الغش في السوق وغيره فإن ذلك من كبائر الذنوب، وقد جاء في الحديث الصحيح: "من غشّنا فليس منا" فالنبي ﷺ حين دخل السوق ورأى الطعام المبلل أدخل يده فيه وقال: ما هذا؟ قال أصابه المطر… فقال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّنا فليس منا.

يا لهذا الموقف العظيم! نبينا ﷺ يدخل السوق ليراقب، ليرشد، ليمنع الغش، ومن بعده يأتي تجار اليوم فيرفعون السعر بلا حق، ويخفون العيب، ويكتبون معلومات كاذبة! ويظلمون في الوزن ويسرقون من الزبائن.

كم نرى اليوم من يفرط في الوعود الكاذبة فيقول هذا أصلي، هذا مضمون، هذا مستورد، هذا آخر قطعة، وهو يعلم أنه يخدع! فالتاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء كما روي في الأثر، فمن التزم صدق النبي ﷺ فهو في أعلى المقامات،

ومن خان فهو في أسفل السافلين، فالسوق إذًا مما يرفع الرجال درجات أو يحطهم دركات.

إن السوق ليس تجارة فحسب؛ بل هو سلوك، وضبط، ووقار، وحياء، فالأسواق لها أهمية في بناء حياة الفرد والمجتمعات، فإذا صلحت أسواق الأمة صلح اقتصادها، وقلّت البطالة، وعمت البركة، وسادت الثقة، وازدهرت الأخلاق، وارتفع مستوى الأمان.

وإذا فسدت ضاع الناس، وضاعت الثقة، وانتشر الغش، وتكدست الشكاوى، وارتفعت الأسعار ظلمًا.

ومنذ الجاهلية كان السوق ظاهرة حضارية، كسوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وغيرها، وكانت العرب تتبايع فيها ثم جاء الإسلام فأقرها، وضبط معاملاتها بالعدل والأخلاق، وتولّى الخلفاء رضي الله عنهم مراقبة الأسواق بأنفسهم، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمرّ على الأسواق ليضبط الأسعار، والشفاء بنت عبد الله كانت محتسبة على سوق المدينة، وعلي بن أبي طالب كان يراقب التجار ويمنع الظلم، فهل نتصور مدينة بلا سوق؟ وهل نتخيل سوقًا بلا أخلاق؟.

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

الخطبة الثانية:

عباد الله: لو نظر كل واحد منا إلى واقع الأسواق اليوم لوجد أمورًا تحتاج إلى تصحيح وضبط، فهناك تجاوزات في اللباس والزينة، وارتفاع الأصوات، والجدال، والخصومات، وإعلانات مضللة وصور محرجة، وتلاعب بالأسعار، وعمالة تسيطر على منافذ البيع بغير رقابة، وغياب لروح الأمانة والصدق، وتضييع الأوقات في الأسواق بلا حاجة.

فأين أثر الصلاة؟ وأين أثر الإيمان؟ وأين مراقبة الله في البيع والشراء؟

إن السوق اختبارٌ صعب للإيمان قد يفشل فيه كثير من الناس، لكن المؤمن الصادق ينجح، لأنه يعلم أن الله يراه في كل لحظة، فليس هناك مكان في الدنيا يُختبر فيه الصدق والأمانة مثل السوق، وليس هناك موضع تظهر فيه حقيقة الإيمان ومعادن الرجال مثل المعاملة. {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]

وينبغي للعامل في السوق أن يكون عالمًا بأحكام المعاملات حتى لا يقع في الحرام ولا يمنع الحلال، وعلينا أن نربي أبناءنا على آداب السوق، والتعامل بالصدق، والحذر من الغش، ولنحفظ الأبصار، ولنخفض الأصوات، ولنقضِ حاجاتنا ثم نخرج، ولنكثر من ذكر الله في مواضع الغفلة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

اللهم ارزقنا صدق المعاملة، وطيب الكسب، وحسن الخلق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

1763629622_السوق بين ضوابط الشرع ومزالق الواقع.doc

المشاهدات 249 | التعليقات 0