الصمد
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
الخطبة الأولى
الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأصلي وأسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ 102ﵞ .
جاء المشركون إلى النبي r وقد مُلئت قلوبُهم عداوةً وحقدًا، وعقولُهم جهلاً، فسألوا نبينا r سؤالًا غريبًا فقالوا:، انسب لنا ربَّك! فأنزل الله U سورةً قصيرة، تعدل ثلث القرآن الكريم، فقال عزَّ من قائل: ﵟقُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ 1 ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ 2 لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ 3 وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ ﵞ نعم، فحديثنا في هذه الخطبة عن هذا الاسم العظيم الصمد.
الصمد اسم بالغ الهيبة، قويّ الحروف، شامخ المعنى، قليل الورود والذكر، ذو جلالة خاصّة. الصمود له سبحانه أهمُ تجليّات الإخلاص في العبادة، فمَن أكثرَ من استحضار معنى الإخلاص في عباداته، أكسب قلبه صفةَ الرضوخ إلى مولاه والصمودَ له وعدمَ الالتجاءِ إلاّ إليه. وها نحن ندلف إلى عالَم الصمديّة لنستلهم شيئاً من معاني الصمد,
فإذا كان الضعف قد بنى حولك سجناً ضيقاً لا تستطيع الخروج منه!وحاصرتك الحاجات، وداهمتك الخطوب، والتفّت من حولك الهموم، وأخذت روحك في الهرب إلى المجهول! فأنت ساعتها بحاجة إلى أن تدلف الى هذا الاسم العظيم من أسماء الله فسيمدّك بكل ما تحتاجُه لتكون قويّا في هذه الحياة، وتجابه واقعَك بشموخ، وتتجاوزُ عقدك بعزيمة!
ابدأ مع الصمد عهداً جديداً، ثم ثق أنّ الغدَ سيكون أفضل.. الصمد هو من تصمد إليه الخلائق، أي تلجأ إليه، هذا من أجلّ معاني هذا الاسم، لذا فسوف نُطوِّف بهذا المعنى.. الصمد هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، والمفزوع إليه وقت النوائب.
سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ".
إذا علمت أن الله هو الصمد، علمت أن الخلق كلهم محتاجون، وأن الله وحده غني، قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾. فهو الصمد الذي لا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إليه كل أحد، إليه يُرفع الدعاء، وعنده مفاتيح الفرج، وبيده خزائن كل شيء.
يحتاج المخلوق إلى نصر فيقول: يا الله.. يحتاج إلى إعانة فيقول: يا الله..
يحتاج إلى حفظ فيقول: يا الله..يحتاج إلى هداية فيقول: يا الله..
يحتاج إلى لطف فيقول: يا الله... أحاطك بالاحتياجات لتحيط نفسك بأسمائه وصفاته، وهذا معنى الصمديّة. في كل لحظات حياتك أنت بحاجة إليه، فإن لم ترجع إليه اختياراً رجعت إليه اضطرارا . المزارع إذا تأخر وقت الحصاد، وقد تعاظمت حاجته للثمر، وصار الماء شحيحاً، نظر إلى السماء وقال: يا الله!
ركاب السفينة إذا تلاطمت بهم الأمواج، وزعزعت فكرة الموت طمأنينة الحياة في نفوسهم قالوا: يا الله! وعيناك على رسّام القلب، تنظر إلى تلك الخطوط المتعرّجة ومريضك تخفت أنفاسه، وتتضاءل نبضاته، وتلك الخطوط تأخذ قليلاً قليلاً في الهبوط، لحظتها تنسى كل الأطباء وتقول في رجاء: يا الله كن معه!
جَاءَ شَيْخٌ أَعْرَابِيٌّ اسْمُهُ الحُصُينُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ: كَمْ تَعْبُدُ يَا حُصَينُ؟ فَقَالَ: سَبْعَةٌ، سِتَّةٌ فِي الأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ لِرَهْبِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ مَنْ لِرَغْبِكَ؟ قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: فَاتْرُكْ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ وَاعْبُدْ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، فَأَسْلَمَ الحُصَيْن لقد اقتنع بسبب معنى الصمديّة، لأن من تصمد إليه وقت الرهبة والرغبة هو وحده من يستحق أن تسجد له!
الصمد: الذي تصمد إليه القلوب، وتطمئن بذكره الأرواح، لا يخذل من دعاه، ولا يرد من قصده، قال الله عز وجل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾
فمن عرف أن ربه هو الصمد، أحسن التوكل عليه، وأخلص الدعاء له، وأيقن أن لا مغيث إلا هو، ولا رازق إلا هو، ولا معين إلا هو.
إذا بحثت عن شيء فلم تجده فدعه، وانشغل بالله. هو الذي جعل ذلك الشيء يضيع لتصمد إليه وتلتجئ، لتقول: اللهم ردّ عليّ ضالّتي، فيردّها! يريدك أن تنشغل به عن حاجتك، ولكنّك تنشغل بها، وتنساه!!
قال رسول الله ﷺ: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له". يريدك أن تصمد إليه في هذا الوقت ليقضي حاجتك ويكشف كربك يغفر ذنبك.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
في عهد نبي الله موسى انقطعت الأمطار، وأصبحت الدنيا قاحلة فخرج موسى عليه السلام هو وقومه وهم آلاف من الرجال والنساء والولدان، فيرى موسى نملة خرجت رافعة يديها إلى السماء صامدة إلى ربّ السحاب، فعلم موسى أن هذا الصمود، وهذا الذل لن يعقبه إلا هطول السماء بماء منهمر، فقال لقومه: ارجعوا فقد كُفيتم، فعادوا على صوت الرعود، ورذاذ المطر! نعم، هو الصمد الذي لجأ إليه الأنبياء في الشدائد: نبي الله نوح لمّا كذّبه قومه صمد إلى ربه وقال: ﴿إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ فاستجاب له الصمد: ﵟفَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ 11 وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ 12 وَحَمَلۡنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلۡوَٰحٖ وَدُسُرٖ 13 تَجۡرِي بِأَعۡيُنِنَا جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ 14 ﵞ
نبي الله أيوب لمّا أنهكه المرض صمد إلى ربّه ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
فاستجاب له الصمد وقال: ﴿فاستجبنا له فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ﴾.
يونس عليه السلام صمد إلى ربه في الظلمات:﴿أن لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فقال الله بعدها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ونجيناه من الغم﴾.
وزكريا لما أراد الله الولد صمد إلى ربه فقال: ﵟ رَبِّ لَا تَذَرۡنِي فَرۡدٗا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡوَٰرِثِينَ 89 فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ يَحۡيَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥٓۚﵞ
من لحاجاتك غيره؟ يجب أن تعلم أنّه لو لم يأذن للدواء أن يؤدّي مفعوله في جسدك لما ارتفع عنك ذلك المرض، فاصمد إليه أن يشفيَك.. يجب أن توقن أنّه لو لم يصرف تلك السيارة المتهوّرة عنك لكنت الآن في عداد الموتى، فاصمد إليه أن يحفظك
أنصت إلى أولئك الذين تعبث بهم سفينة، أو يرون الموت وهو مقبل عليهم، وتعصف بهم رياح التقلّبات سوف تسمعهم بجميع أديانهم يلهجون باسمه: يا الله!
ﵟهُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ 22ﵞ
لماذا ننتظر جائحة تردّنا إليه؟ ومصيبة تذكرنا باسمه؟ وكارثة نعود بها إلى المسجد؟
ألا يستحق أن نخضع ونلتجئ إليه دون جوائح وكوارث ومصائب؟
هل كل ما أعطانا إيّاه من حياة وصحّة وإيمان وأمان وسعادة قليل حتى لا ننكّس رؤوسنا إليه إلا ببليّة تنسينا كل أوهامنا، ولا يبقى في عقولنا معها إلا الله! إذا التجأت لفلان من الناس صباحاً قد يغلق بابه دونك في المساء. إذا نصرك على زيد قد لا ينصرك على عمرو. إذا أعطاك اليوم فسوف يمنعك في الغد. أما الله.. فلا! ﵟهُوَ ٱلۡحَيُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۗ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 65 ﵞ
يعطي بالليل والنهار، ينصرك على الجميع إن كنت مظلومًا، لا يغلق بابه، يده سحاء الليل والنهار، أكرم الأكرمين، لذلك تصمد إليه كل الخلائق، فإذا جرّبت أن تصمد إلى غيره في حاجة رجعت خائبا، ولا بد!
يقول النبي ﷺ لابن عباس: " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ مادام أن هناك حاجة تستحق السؤال؛ فليكن الله هو من تسأله! سُئل أحد العارفين عن عن اسم الله الأعظم فقال: فرّغ قلبك من غيره ثم ادعه بأي اسم يجبك..وهذا فحوى معنى الصمد، كل عارض يعرض إنّما هو رسالة تقول لك: لديك رب فالتجئ إليه..المرض رسالة لتذلّ له..والفقر برقيّة لتسجد له.. والضعف مكالمة تقول لك استجلب القوّة من القويّ.. الحياة كلّها تصرخ في وجهك: لديك رب، اصمد إليه! وفي حديث ابن عباس سالف الذكر يقول المصطفى ﷺ: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ احفظه في نفسك وجوارحك وخطراتك، سيكون أمامك بحفظه ومعيّته ونصرته. اصمد إليه بقلبك وروحك وتفكيرك وجسدك وإراداتك وأحلامك وأوهامك.. إذا علّمت روحك الصمود إليه، فإنّها مع الزمن ستستحي أن تكثر من الطلبات الدنيويّة لأنّها ليست الحيّز الذي خلقك له، وتكون كل آمالك أُخروية..
قال الخليفة لابن عمر وهو يطوف حول الكعبة سلْني يا ابن عمر، فنظر إليك بشموخ الصامد إلى الله وقال، من أمر الدنيا أم الآخرة؟ فقال أما الآخرة فلله ولكن من شؤون الدنيا، فقال: لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟!
الصمود لله يحوّلك إلى عظيم، لا يبالي بمُلاّك التراب.. فالدنيا لا يقبل عليه الصامدون لله.. قال أمير لابن تيمية، سمعنا أنّك تريد ملكنا يا ابن تيمية! فرفع ابن تيمية رأسه بشموخ وقال:والله إن ملكك لا يساوي عندي فلسين!
اللحظة التي تصمد فيها إليه لأجل حاجتك، هي نفسها اللحظة التي تصبح حاجتك ملك يمينك! لا عبور لأي رغبة إلا من طريق الله، لا إمكانيّة لحدوث شيء إلا بالله, فإنّه وحده الذي لا حول في الوجود ولا قوّة إلا به. لا يمكن لخليّة أن تتحرّك ولا لذرة أن تكون ولا لقطرة أن تتبخر ولا لورقة شجر أن تسقط إلا بحوله وقوّته! لا يستطيع العالم كلّه أن يمسّك بسوء لم يرده الله، ولا يستطيع العالم كله أن يدفع عنك سوءاً قدّره الله!
إذن فاجعل وجهك إليه، وألجئ ظهرك إليه، وفوّض أمرك إليه.. فهو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد..
اللهم ارزقنا صدق الصمود إليك، وحسن التوكل عليك...
المرفقات
1766640866_الصمد.docx
1766640866_الصمد.pdf
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
عضو نشط.
تعديل التعليق