العشر المباركة
هلال الهاجري
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
جاءَ في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ)، تعجَّبَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم من هذا الفضلِ العظيمِ، وتذّكروا أكثرَ الأعمالِ أجراً وأحبَّها إلى العزيزِ العليمِ، تلك اللحظاتُ، التي تتطايرُ فيها الأشلاءُ، وتتدّفقُ فيها الدماءُ، وترتفعُ فيها الأرواحُ، إلى ربِها العليمِ الفتَّاحِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
هي أيَّامُ التَّهليلِ والتَّكبيرِ، هي أيَّامُ التَّسبيحِ والتَّحميدِ، كما جاءَ في الحديثِ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)، ولذلكَ لمَّا سمعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا هذا الحديثَ من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، كَانَ يَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرُ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ، وهذ التكبيرُ المطلقُ الذي يبدأُ من أولِ ذي الحجةِ إلى آخرِ أيامِ التشريقِ، ويكونُ في كلِ وقتٍ ومكانٍ.
دعونا في هذه الأيامِ الفاضلةِ نراجعُ علاقتَنا مع أولِ ما يُحاسبُ عليه العبدُ يوم القيامةِ، لمَّا سمعَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ)، كانوا كما وصفَهم ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ)، يَقُولُ عُدَيُّ بْنُ حَاتِمٍ: (مَا جَاءَ وَقْتُ صَلاَةٍ قَطُّ إِلاَّ وَقَدْأَخَذْتُ لَهَا أُهْبَتَهَا، وَمَا جَاءَتْ إِلاَّ وَأَنَا إِلَيْهَا بِالأَشْوَاقِ).
والصَّدقةُ الصَّدقةُ أيُّها الحبيبُ، وتذّكرْ ذلك الموقفَ المُهِيبَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُ رَبَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)، فلنتصدَّقْ يومياً من كسبٍ طيّبٍ ولو بالقليلِ، وقد جاءَ في الحديثِ: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ).
واحرصْ في هذه الأيامِ التسعةِ الفاضلةِ على الصِّيامِ، فهي العبادةُ الوحيدةُ التي أُخفي أجرُها عن الأنامِ، قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)، فلذلكَ فإنَّكَ تسمعُ عجباً من صيامِ الصَّالحينَ، طمعاً في عظيمِ أجرِ ربِّ العالمينَ.
بَل العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِن صِيانِ أَحدِ أيَّامِهِ، هل دَرستُم في الحِسابِ والرِّياضياتِ، أنَّ الواحدَ يُساوي العَشَراتِ والمئاتِ؟، ولَكنْ في حِساباتِ ربِّ العِبادِ، تَختَلفُ القَوانينُ والأعدادُ، فصِيامُ يَومٍ واحدٍ، يُكَفِّرُ خَطايا أَكثرَ مِن سَبعمَائةٍ يومٍ، قال عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (صيامُ يومِ عَرَفَةَ أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السَّنةَ التي قَبْلَهُ، والسَّنَةَ التي بَعْدَهُ)، وكَيفَ نَعجَبُ مِنَ كَرمِه، وَقَد قَالَ: (يا ابنَ آدمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي).
إنَّهُ يومُ الابتِهالِ والسُّؤالِ والدُّعاءِ، يَومُ تُرفعُ فيهِ الأكُّفُ إلى السَّماءِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَمَ: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)، فَهَل لَكَ حَاجَاتٍ؟، هَل لَكَ أُمنياتٍ؟، هَل تُريدُ التَّوفيقَ والنَّجاحَ؟، هَل تُريدُ الثَّباتَ والفَلاحَ؟، فاجعلْ اليومَ بينَكَ وبينَ رَبِّكَ مُناجاةً ودُعاءً، وأَخرِجْ ما في قَلبِكَ مِن زَفَراتٍ وبُكاءٍ، قَالَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، يوالي على عبادِه مواسمَ الخيرِاتِ، ليكفّرَ عنهم السيئاتِ، ويرفعَ لهم الدرجاتِ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، أما بعد:
أيُّها الأحبَّةُ .. تُختَمُ هَذِهِ العَشرُ بِأفضلِ الأيامِ وأعظَمِها عندَ اللهِ تعالى، كما قَالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: (إنَّ أفضلَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ يومُ النَّحرِ)، هو يومُ الحجِّ الأكبَرِ، هو يومُ الذِّكرِ والشُّكرِ، فِيهِ تُراقُ دِماءُ الأضاحي والهَديِّ في الحَجِّ والبُلدانِ، ويَتذَكَّرُ النَّاسُ قِصَّةَ استسلامِ إبراهيمَ وإسماعيلَ للمَلكِ الدَّيَّانِ، فأحسِنوا اختيارَ الأضاحي خَاليةً مِن العُيوبِ التي نَهى عَنها عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَليستْ عَوراءَ ولا عَرجاءَ ولا مَريضةً ولا هَزيلةَ الجِسمِ والعِظامِ، وتأكَدوا من السِّنِّ المُجزيةِ في بَهيمةِ الأنعامِ، فسِتةُ أشهرٍ في الضَّأنِ وسِنةٌ في المَعزِ وسَنتانِ في البَقرِ وفي الإبلِ خَمسةُ أعوامِ، واذبحوها بسمِ اللهِ طَيبةً بِها نُفوسُكم، وكُلوا واهدوا وتصدقوا، ولا تَتَذمَّرْ للنَّاسِ من غَلاءِ الأضاحي، بل قُل في سبيلِ اللهِ يَرخصُ الغَالي، (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ).
ولا تَنسوا وأَنتُم في غَمرةِ الذَّبحِ والدِّماءِ، أنَّكم في يومِ عِيدٍ وسَناءٍ، يُشرعُ فيهِ التَّجملُ ليومِ العيدِ، ولُبسُ الجَديدِ، والوَجهُ المُشرقُ السَّعيدُ، وشُهودُ صلاةِ العيدِ ودَعوةِ المُسلمينَ، وأدخِلوا على أهلِكم السَّعادةَ والحُبورَ، فأنتمُ في يومِ فَرحٍ وسُرورٍ، واذكروا اللهَ تَعالى وكُلوا واشربوا واشكروا، كَما قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (يومُ عرفةَ ويومُ النَّحرِ وأيَّامُ التَّشريقِ عيدُنا أهلَ الإسلامِ، وهي أيَّامُ أكلٍ وشربٍ).
اللهمَّ يَسِّرْ لمنْ أرادَ الحجَّ والعُمرةَ، اللهم اجعل حجَهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم رُدَّهم إلى أهليهم سَالمينَ، وبلباسِ التَّقوى مُتجملينَ، ولكل خيرٍ وفضلٍ غَانمينَ، وبالمغفرةِ فائزينَ، ومن النَّارِ مَعتوقينَ، ولرضوانِكَ حَائزينَ، اللهمَّ واجعلنا معهم من المرحومينَ المقبولينَ الفائزينَ، اللهمَّ لا تحرمنا فضلَك وجودَكَ وعطاءَك وكرمَك بسوءِ ما عندنا، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، وارحم ضعفَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ للحكمِ بكتابِك والعملِ بسنةِ نبيِّك، ووفقْ ولاةَ أمرِنا خاصةً للخيرِ، اللهم خذْ بأيديهم لما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ، واجزهم خيرَ الجزاءِ لِما يُقدمونَه للحجاجِ والمعتمرينَ والزائرينَ، ولما يبذلونَه في خِدمةِ الحرمينِ الشَّريفينِ يا ربَّ العالمينَ، واذكروا اللهَ يذكركم، واشكروه على نعمِه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تَصنعونَ.
المرفقات
1748441962_العشر المباركة.docx
1748441971_العشر المباركة.pdf