العولمة وتشويه الغيب في وعي المسلم المعاصر
د مراد باخريصة
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلّمه البيان، وأكرمه بالإيمان بالغيب الذي هو من خصائص أهل الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بعبادته على بصيرة وإيقان، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، علّم الأمة الإيمان بالغيب، وربّاها على الصدق والإذعان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أعظم ما يُبتلى به المسلم في هذا الزمان: أن يُنتزع من قلبه الإيمان بالغيب، دون أن يشعر، فيصبح عبدًا لما يرى ويسمع فقط، ويكفر بما وراء ذلك، إلا أن يشاء الله رحمة بعبدٍ حفظ الله عليه إيمانه.
أيها المسلمون: لقد صار حديث العولمة اليوم على ألسنة الجميع، يدخل في كل بيت، ويتسلل إلى كل عقل وقلب، لكنها عولمة لا تدعو للتعارف والتكامل كما يُظَن، بل تسعى لطمس الهويات، ونزع الغيبيات، وتشكيك المسلم في أعظم ما يميز عقيدته وهو: الإيمان بالغيب.
فالغرب المادي، في ظل النظام الرأسمالي الجاف، لا يؤمن إلا بما تُثبته المعادلات أو تلتقطه العدسات، فإذا قلتَ لهم: الجنة، النار، عذاب القبر، الحساب، قالوا: أين الدليل الحسي؟!
وإن قلت لهم: القضاء والقدر، قالوا: هذه خرافات، الإنسان هو من يصنع قدره بيديه!
وإن قلت: الله خلق هذا الكون، قالوا: بل هي الطبيعة، أو انفجارٌ أعمى، أو تطوّرٌ أخرق!
لقد بدأت هذه الحرب الفكرية عن طريق الإعلام، والأفلام، والألعاب الإلكترونية، حيث تُزرع الأفكار الإلحادية في عقول أبنائنا دون وعي، فكم من لعبة تحمل شعارات ماسونية أو إلحادٍ صريح، مثل لعبة "Doodle God" التي يدّعي فيها اللاعب أنه هو الإله!
وكم من فيلم يُغرس في العقل أن "الكون لا خالق له" ويقول فيه أحدهم: "ربما العالم ساعة بلا صانع"!
وهذا والله ضربٌ للفطرة، واستهزاءٌ بالإيمان، وترويجٌ للإلحاد بأقوى أدوات التأثير.
بل وصل الأمر إلى احتقار اليوم الآخر، والادّعاء أن الجنة والنار مجرد خيال، كما يقول بعض دعاة الحداثة: إن هذه الغيبيات مجرد مجازات تحتاج إلى تأويل، وأن "عذاب القبر" ما هو إلا شعور نفسي من الوحدة والعزلة!
فأي ضياع أكبر من هذا؟! وأي جناية على الدين أعظم من إنكار أركانه؟!
ألا فانتبهوا أيها المسلمون! فإن الكفر صار يُبث في بيوت المسلمين وهم لا يشعرون، وصار أبناؤنا يتشربون الإلحاد من خلال المسلسلات والروايات وألعاب الفيديو، ويستهزئون بما كان الصحابة رضوان الله عليهم يبكون خوفًا منه!
إنه خطر العولمة حين تقتلع الإيمان من جذوره، فتترك المسلم جسدًا بلا عقيدة، وشبحًا بلا قلب، وقلبًا بلا غيب!
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك : 12]، ويقول جلّ وعلا: { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر : 18].
أيها المسلمون: من آثار العولمة أيضًا ما أصاب الإيمان بالقدر من ضعف واضطراب، فأصبح بعض المسلمين يظنّ أن القدر ظلم، وأنه سيفٌ غادر يذبح الطيبين، في حين أن الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان العقيدة والركن السادس من أركان الإيمان الستة.
لكن حين يُسلم المسلم أذنه لأدبٍ فاسد، ورواياتٍ تشكّك في حكمة الله، أدب مزيف يرى أن القدر قوة مستبدة تسحق الإنسان – حينها يتحول قلب المسلم من التسليم والرضا إلى السخط والاعتراض، وربما الكفر والاعتراض القلبي.
أحبتي في الله، هذه العولمة الغربية المادية لا تنشر فقط التكنولوجيا، بل تنشر معها فكرًا خطيرًا، وفلسفة وجودية تنكر الدين والروح والمعنى، وهي تلّبس ذلك لباس التنوير والحرية، بينما في حقيقتها تسحب المسلم إلى الهاوية، شيئًا فشيئًا.
ألا فليحذر الآباء على أبنائهم، وليغرسوا فيهم الإيمان بالغيب، ويذكّروهم بأشراط الساعة، وعذاب القبر، والصراط، والحساب، والجنة والنار، فهي حقٌّ لا شك فيه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة : 3].
ولنتذكر دائمًا أن الغيب لا يدرك بالعقل المجرد، بل يُصدق به عن الله ورسوله، فمن آمن به سعد، ومن أنكره هلك، مهما بلغ من العلم الدنيوي{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم : 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله، إنّ من رحمة الله تعالى أن جعل في حياتنا اليومية شواهد حسية تدلّ على صدق الإيمان بالغيب، وتقرّبه للعقول، فلا حجة لأحد في إنكاره، ولو أنه لم يره بعينه.
فهل رأيتم الكهرباء؟ نعم، نرى أثرها: ضوءًا، وحرارة، وحركة، لكن لا أحد يراها بأم عينه، هل أنكرناها؟ هل شككنا في وجودها؟ أبدًا لم نسمع أحدًا يشكك فيها، لأننا نرى أثرها، فنؤمن بها، رغم أننا لا نراها رؤية مباشرة.
ومثل ذلك الهواء: لا نراه، لكنه يحرّك الأشجار، وينقل الروائح، ويُسقِط الطائرات، فمَن الذي يقول: لا أؤمن به لأنه غيبٌ لا أراه؟! بل نؤمن به من غير تردد، لمجرد أن آثاره واضحة، فكيف لا نؤمن بالله وفي كل شيء في الكون له آية تدل على أنه الواحد الخالق.
ومثلها اليوم في زماننا: الرسائل التي تُنقل عبر مواقع التواصل الاجتماعي فتصل إلى جميع أركان الأرض في لحظة واحدة!
أيرى الإنسان كيف انتقلت؟ هل رأى المسار الذي سلكته الإشارة من هاتف إلى هاتف؟ هل يعرف كيف صوته صار نبضًا كهربائيًا، ثم موجة، ثم عاد صوتًا؟ لا والله، لكنه يصدق بذلك ويؤمن به، لأنه اعتاد آثاره.
فإذا كنا نُسلّم بهذه الغيبيات التكنولوجية، فلماذا نتردد في تصديق الغيبيات الإلهية؟!
أليس الله قادرًا على أن يأمر ملك الموت أن يقبض أرواح آلاف الأشخاص في لحظة واحدة، كما تصل الرسالة لكل جهاز في وقت واحد؟
بل قدرة الله أعظم من كل تقنية، وأعجب من كل ذكاء اصطناعي، وأدق من كل تكنولوجيا!
إننا نؤمن بملك الموت، وإن لم نره، ونؤمن بالجنة والنار، وإن لم نشاهدها، ونؤمن بالميزان والصراط والحساب، لأن الذي أخبرنا عنها هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الذي وصفه الله بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم :3-4] أفلا نثق بوحي السماء كما نثق بشبكات الإنترنت؟ أفلا نصدق كلام الله ورسوله كما نصدق ما نراه في الشاشات؟
إن الإيمان بالغيب هو اختبار حقيقي للقلوب، وهو جوهر التوحيد، والميزان بين من آمن ومن كفر، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد : 25] فابدأ بنفسك، وعلّم أبناءك، واغرس فيهم أن هناك أمورًا لا تُدرك بالعقل وحده، بل تحتاج إلى نور الوحي وهداية الرب جلّ وعلا.
اللهم ارزقنا إيمانًا لا يتزعزع، ويقينًا لا يتزلزل، وثبّت قلوبنا على الحق، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، اللهم احفظ أبناءنا من شبهات الإلحاد، اللهم اجعلنا من الذين آمنوا بالغيب وصدقوا المرسلين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.