الغاية من الصيام
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
الغاية من الصيام
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أكرمنا برمضان ، وجعله موسمًا للرحمة والعفو والغفران ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيمُ الرحمن ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ ولد عدنان ، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقوى والإيمان . أما بعد :-
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجلّ ، فالعز والشرف والسعادة في التقوى ، فالتقوى كنز عظيم ، خير الدنيا والآخرة مجموع فيها : ( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ ) . [البقرة:197] . والقبول معلق بها : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ) [المائدة:27] . التقوى فيها تفريج الكربات وسعة الرزق : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] . وفيها تيسير الأمور : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق: 4 ] . وفيها مغفرة السيئات وزيادة الحسنات : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [الطلاق: 5] . فما أعظم التقوى وما أعظم ثمراتها .
أيها الإخوة : إن الغاية من الصيام هي تقوى الله عز وجل . تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل . تقوى صادقة ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ سورة البقرة 183 ] . فهذه الآية دلت على أن الغاية الكبرى من هذا الصيام هو حصول تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، فالصائم الذي لم يحقق تقوى الله في صيامه قد خسر الثمرة من هذا الصيام الذي لم يشرعه الله لمجرد الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة قال صلى الله عليه وسلم : [ من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ] . إذاً هل حقق التقوى من يدخل عليه الشهر الكريم ويخرج ولم يحرك فيه ساكناً ، فصلاته مضيعة ، ومنكراته مستمرة ، فهذا إن لم يزده رمضان بعداً عن الله فلم يزده قرباً . أم هل حقق التقوى ونال ثمرة الصيام من حافظ على الصلوات وتصدق وقرأ القرآن وتخفف من المنكرات لكنه ما إن يهلَّ شهر شوال حتى يعود كما كان في شعبان . وهل حقق التقوى من يصوم ويصلي ويقرأ القرآن لكنه لا يتورع عن تضييع ليالي هذا الشهر الكريم في جلسات وسهرات منكرة قد امتلأت بالغيبة والمشاهد المحرمة . ولا نعجب أيها المؤمنون ممن يصوم ويصلي مع الناس ومع ذلك لا نجد أثراً للصيام في أعماله وتصرفاته بل يوم صومه وفطره سواء ، وسر ذلك أن كثيراً من الناس يصومون ويصلون التراويح مع الناس ، لكن فعلهم هذا قد غلبت فيه العادة على نية العبادة ، ولذلك لا نجد للصيام والقيام أثراً في حياتهم قال جابر رضي الله عنه : ( إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء ) .
أيها الصائمون : إن على المؤمن أن يحرص على تحقيق التقوى ، وقد جعل الله في هذا الصيام وسيلة لتحقيقها ، قال ابن سعدي رحمه الله تعالى : ( فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى ، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه ) . وتتحقق التقوى من الصيام من وجوه عديدة : فتتحقق التقوى بالصيام ذاته ، فاحرص على صيانة صيامك . وتتحقق التقوى بقلة المعاصي في هذا الشهر الكريم ، لأن الصيام يُضَيِّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان . وتتحقق التقوى بكثرة الطاعات : بالحفاظ على الواجبات أولاً ، ثم المستحبات ، من صلاة تراويح وتلاوة قرآن ودعاء وصدقة ونحوها .
عباد الله : ما أسرع ما تنقضي أيام هذا الشهر الكريم ولياليه ، وصدق الله إذ يقول عن هذا الشهر : ( أياماً معدودات ) . فبادروا فيه بالأعمال الصالحة والتوبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي ، فهو فرصة للتوبة والدعاء والعتق من النيران ، فمن لم يتب فيه فمتى يتوب ؟ ومن لم يدع فيه المعصية فمتى يَدَعَهَا ؟ ومن لم يُعْتَق فيه من النار فقد خسر أعظم الخسارة . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) . بارك الله لنا فيما سمعنا ، ورزقنا العملَ الصالحَ الذي يُرضِيه عنّا ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل الصيام جُنَّة ، وسببًا موصلاً إلى الجنة ، أحمده سبحانه وأشكره ، هدى إلى خير طريق وأقوم سنة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله بعثه إلينا فضلا منه ومنة ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :-
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن التقوى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة : ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ الزمر 16 .
عباد الله : إن من نعم الله علينا أن بلَّغنا هذا الشهر العظيم والموسمَ الكريم الذي توافَرَت النصوص على عظيم فضله وكريم خِصاله ، فالواجبُ على المسلم اغتنامُ لحظاته بما يكون سببًا للفوز بدار النعيم والنجاة من الجحيم ، قال صلى الله عليه وسلم : « من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه » متفق عليه . فسارِعوا فيه إلى أنواع الخيرات ، وبادِروا بالأعمال الصالحات ، وتسابَقوا فيه إلى سائر القُربات ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس في الخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المُرسَلة " متفق عليه . فاحرصوا أن يكون صوم هذا الشهر سبب لتطهيرَ القلوب ، وتزكيةَ النفوس ، والوصول إلى حقيقة التقوى ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
أيها الصائمون : رمضان فرصةٌ عظيمةٌ لتغيير الأحوال إلى ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من الخضوع لله جل وعلا ، والتذلُّل له سبحانه ، والوقوف عند حدوده ، والالتزام بطاعته سبحانه ، فمن أضاع هذه الفرصةَ وقع في الخسارة الكبرى والحسرة العُظمى ، صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رقِي المنبر فقال : « آمين » ثلاثًا ، ثم قال : « إن جبريل أتاني فقال : رغم أنف امرئٍ دخل عليه رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعدَه الله ، قل : آمين ، فقلتُ : آمين » . فالمُبادرة المُبادرة إلى الصالحات ، والمُسابقة المسابقة إلى الخيرات . فالصائمون المتقون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة وذكر وصلة وإحسان وجدٍ وعملٍ . فاطلبوا الخير دهركم ، وتعرّضوا لنفحات ربكم ، فخيركم من طال عمره وحسن عمله ، وشر الناس من طال عمره وساء عمله . ألا فحققوا تقوى الله بصيامكم ، بامتثال أوامر الله تعالى ، واجتناب نواهيه ، وبفعل كل مأمور ، وترك كل محظور ، فتقوى الله تعالى تستوجب عملًا وجهادًا ، ونيةً صادقة ، فليست التقوى بالتمني ، ولكنها إيمان يصدقه عمل . وأبشروا بموعود الله ، فربنا غفور رحيم يقبل التوبة من عباده ويغفر الذنب العظيم ويجازي على العمل اليسير بالأجر العظيم ، قد أعد جنةً عرضها السماوات والأرض ، فُتِحَت أبوابها في هذا الشهر الكريم وجرت أنهارها وتزينت حورها واكتمل نعيمها وأعدت للمتقين . اللهم اجعلنا من عبادك المتقين اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه وتقبله منا يا أرحم الراحمين . ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم ، ألا وهو : الصلاة والسلام على النبي الكريم . اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا وحبيبنا نبينا محمد ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين وعن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذِلَّ الشرك والمشركين ، اللهم أصلِح أحوالنا وأحوال المسلمين ، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات . اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين ، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها ، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم وفِّق ولاة أمرنا لما تحبُّ وترضى ، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى . اللهم أعزهم بدينك وأعز بهم دينك ، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم ، اللهم سدّدهم في أقوالهم وأعمالهم وآرائهم ، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا ، اللهم ثبّت قلوبهم وأقدامهم واشف مرضاهم وتقبل موتاهم يارب العالمين ، { ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذابَ النار } . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 14/9/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1741767381_الغاية من الصيام.docx