الغفلة داء ودواء (مشكولة + مختصرة)
صالح عبد الرحمن
خطبة عن الغفلة داء ودواء (مشكولة + مختصرة) 23-01-1447هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، أنارَ بصائر أوليائه فغدَوْا أيقاظًا والناسُ رقودٌ، أحمده سبحانه، وهو أعظم محمود وأشرف موجود، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، الواحد الأحد المعبود، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، ذو المقام المحمود والحوض المورود، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه الرُّكَّع السُّجُود، الموفِينَ بالعهود، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى اليوم المشهود.
أما بعدُ: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، وكونوا له كما أمركم يكن لكم كما وعدكم، أجِيبوا اللهَ إذا دعاكم، يُجِبْكُم إذا دعوتموه.
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- خلَق القلوبَ لتكون عارفةً به، متعرِّفةً إليه، موصولةً به، لا يصدُّها عن ذِكْره صادٌّ، ولا يشغلها عن التفكُّر في آياته رادٌّ، غير أنه قد تعرِضُ لهذه القلوبِ أدواءٌ وحُجُبٌ، تَحُولُ بينَها وبينَ ما خُلِقَتْ له، وتُزِيلُها عن حالها التي أُرِيدَتْ لها، ومِنْ أخطرِ ما يَعرِض لها وأضرِّه داءُ الغفلة، فإنه رقاد القلب، وانصرافُه عن الذِّكْر، وإعراضه عن التَّذْكِرة، حتى يُتابِعَ النَّفْسَ فيما تشتهيه، ويفقدَ الشعورَ بما حقُّه أن يَشعُرَ به ويُوقَفَ عندَه، ومن هذه الغفلات:
الغفلةُ عن التفكُّر في الآيات الكونيةِ والشرعية: فتأتي واحدةً بعد واحدةً، والقلوبُ لاهيةٌ سامدةٌ، لا تنبعثُ إلى تصديق وإيمان، ولا تنجفلُ إلى خوف وخضوع وتضرُّع وإذعان، (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)؛ وذلك الشأن إذا ورَدَت الآياتُ على محلٍّ غافلٍ غيرِ قابِلٍ للتذكرة، فكأنما هي غيثٌ ينزلُ على أرض ليحييها، لكنها قيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً.
ومنها: الغفلة عن الدار الآخرة: وما تستحِقُّه من السعي لها حقَّ سعيها، وإعدادِ الحَرْث لها قبل أن يأتيَ يومُ الحسرةِ للغافلينَ.
فإذا أَتَتِ الآخرةُ التي غفل عنها كثيرٌ من الناس هنالك حقَّت حسرتُهم، يومَ لا تنفعُ الحسرةُ، قال سبحانه يصوِّر ذلك الحالَ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، هذا يومٌ يُقضَى بين الخلائق، (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، منهم خالدٌ في الجَنَّة، ومنهم خالدٌ في السعير، فأمَّا أهلُ الجنة ففي نعيم وحبور، وأمَّا أهلُ النارِ ففي حسرة وثبور، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)، وَهَؤُلاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلُ الدُّنْيَا (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)"(أخرجه الشيخان في صحيحهما).
والسبيلُ إلى علاج هذه الغفلةِ: العِلْمُ والبصيرةُ بحالِ الدنيا، وإنزالُها منزِلَتها، وتَرْكُ الاستغراق فيها؛ حتى لا يستولي حُبُّها على القلوب، فتغفلُ عن الآخرة، فإن الدنيا والآخرةَ ضرتانِ، بقدر إرضاءِ إحداهُما تسخطُ الأخرى، وبقدر تعلُّقِ القلبِ بإحداهُما ينصرفُ عن الأخرى، ولا علاجَ لذلك إلا بأن تكونَ الآخرةُ هي الغاية، والدنيا هي الوسيلةُ إليها، فإذا كانتْ كذلك فهي مزرعةُ الآخرة، ونِعمَتِ المزرعةُ.
وممَّا يؤمِّن من هذه الغفلة، ويعصِمُ منها: ذلكم العلاجُ النبويُّ الشريفُ، الذي أخبَر عنه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ"(أخرجه أبو داود بسند صحيح).
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وبسُنَّة النبي الأوَّاب، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفِروه واذكروه ذكرًا كثيرًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أحسن الحمد وأوفاه، والصلاة والسلام على نبيِّه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومَنِ استنَّ بسُنَّتِه وهداه.
فإن من أعظمِ أسباب الغفلة يا كرام: تراكُمَ الذنوبِ على بواطن القلوب، وكلُّ ذنبٍ لم يَتُبْ منه صاحِبُه فلا بد أن يكون تأثيرُه على صفاء البصيرة ونورِها، وإنَّ العبد لَيُذنِبُ وإنها لَتُظلِم شيئًا فشيئًا، حتى تصدأ، كما يصدأ الحديدُ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
والهوى معاشر الكرام، يطمس نور القلب، ويُعمي بصيرته، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
ألا لقد أسمعَ مناديِ الإيمان لو صادف آذانًا واعيةً، وشَفَتْ مواعظُ القرآنِ لو وافَقَتْ قلوبًا خاليةً، ولكن عصفتْ على القلوبِ أهواءُ الشهوات والشُّبُهات، فأطفأت مصابيحَها، وتمكَّنَت منها أيدي الغفلةِ والجهالة، فأغلقت أبوابْ رشدِها، وأضاعت مفاتيحَها، وران عليها كسبُها، فلم ينفعْ فيها الكلام، ووُعِظتْ بمواعظَ أنكى فيها من الأَسِنَّة والسهام، ولكن ماتت في بحرِ الجهلِ والغفلة، وأَسْرِ الهوى والشهوة، وما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامٌ.
اللهم أحي قلوبنا بذكرك، وجعلنا متذكرين لنعمك، قائمين بحقوقك يارب العالمين.