اللّهمَّ اهدني وسددني
الشيخ د طلال بن فواز الحسان
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الرحمنِ الرحيم، مالكِ يوم الدين، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وأزواجه وذريته وسلّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد ..
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا .... )
أخي المبارك..
هل أكلتك الحيرة؟ هل تشعرُ أن عقلَك أعجزُ من أن يحددَ لك الصوابَ من الخطأ، هل عُرضت عليك وظيفتان لا تدري أيّهما أنسب لك؟ هل تزاحمت في عقلك مميزاتُ طريقين من طرق الحياة لا تدري أيهما تسلك؟ بل هل تعبت من درب التيه والضياع وتريد أن يمنّ الله عليك ويدلَّك إلى طريق النور والهداية؟ أنت إذن مهيّأ لبداية عهد جديد مع دعاء نبوي عظيم يخلّصك من جميع ما سبق.
أنت محتاج على أن تتعرّفَ على هذا الدعاء العظيم، أن تلهجَ به في صبحك ومساءك ليوقفَ في نفسك جيوشَ الحيرة، ويهديَك إلى الصراط المستقيم!
أيها المؤمنون، لقد أوتي نبينا الكريم ﷺ جوامعَ الكلم؛ ومن ذلكم الدعواتِ المأثورةِ عنه ﷺ فإن الله سبحانه آتاه كواملَ الدعاء وجوامعَه. ومن عظيم شأنِ أدعيتِه ﷺ أنَّ الله جل وعلا جمع له في دعائه خيرَ الدنيا والآخرة، وبل وجميعَ أبوابِ السعادة.
وها هنا وقفةٌ مع دعوة عظيمة مأثورةٍ عن نبينا الكريم ﷺ أحاطت بالخير كلِّه، وجمعت الفلاحَ والسعادة من أطرافها، بكلمة وجيزة ودعوة عظيمة، أرشد إليها صلوات الله وسلامه عليه.
فأرعوني أسماعكم، وأصغُوا لي بقلوبكم، فمن تمسّك بهذه الدعوةِ ولهج بها بقلب حاضر ويقين؛ فقد فُتح له باب التوفيق على مصراعيه، وملأ يديه من الخيرات والبركات.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله ﷺ": قل: اللّهمَّ اهدني وسددني. واذكر بالهداية هدايةَ الطريق، وبالسداد سدادَ السهم". وفي رواية قال : "قل: اللّهمَّ إني أسألك الهدى والسداد".
معاشر المؤمنين: لكم أن تتأملوا هذه الدعوةَ العظيمة التي أرشد إليها نبينا الكريم ﷺ كلمتان جمعتا الخير كلَّه في هذه الدعوة العظيمة التي أرشد إليها نبينا ﷺ. اللهم اهدني وسددني.
وسنسلّطُ الضوء فيه هذه الخطبة على شيء من مضامين هذه الدعوة العظيمة الموجزة. فمن مضامين هذه الدعوة؛ عظمُ فقرِ العبد إلى الله، وشدةُ حاجته إليه جل وعلا، فإن العبد لن ينال هدايةً ولن يصيب سدادًا إلا إذا هداه الله سبحانه وسدَّده، وفي الحديث القدْسي: "يقول الله -تبارك وتعالى-: يا عبادي: كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم"، فالهداية بيده وحده، والسداد بيده وحده، فما أعظم فقرَ العبد وحاجتَه إلى الله بأن يهديه وأن يسدِّده، وأن يُصلح له شأنه كله.
وأعظمُ النِّعم وأعزُّها نعمةُ الهداية، لأنه لا نجاةَ من العذابِ، ولا وصولَ إلى السعادةِ إلا بها، وهي أجلُّ نِعمِ الله الواجِب شكرُها، قال جلّ جلاله (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ). وطلبُ الثباتِ عليها من أخصِّ أدعيةِ الراسخين في العلم (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، ولا سبيلَ إلى الجنّة إلا بسلوكِ طريق الهدايةِ، )وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ(. والدعاء بالهداية هو رأسُ الأدعية وأفضلُها، فإنه يجمع صلاحَ العبدِ في الدين والدنيا والآخرة. وأُمِر المسلمُ بأن يدعوَ ربَّه في كلّ صلاةٍ بأن يمنحَه الهداية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أنفعُ الدعاءِ وأعظمهُ وأحكمُه؛ دعاءُ الفاتحةِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، لأنَّ العبدَ إلى الهُدى أحوجُ منه إلى الأكل والشرب". وفتحُ القلوبِ بيَد الله وحدَه سبحانه قال الله: )إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(.
ومن مضامين هذه الدعوة أن السداد والهداية إذا اجتمعا في لفظ كان لكل منهما معنىً خاص، فيكون السداد أعلى مراتبِ الهداية، فأنت في هذه الدعوة العظيمة لا تسأل الهداية فحسب، وإنما تسأل اللهَ أن يرزقك أعلى مراتب الهداية، وهو السداد.
ومن مضامين هذه الدعوة: كمالُ تعليم النبي ﷺ لأمته، وعظيمُ بيانه، وجميلُ نصحه ﷺ، ومن ذلكم أن من طريقته في التعليم ﷺ توضيح الأمور المعنوية بالأمور المحسوسة المشاهدة؛ قال ﷺ: "اذكر بالهداية هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم". فعندما يستحضر الداعي هذا المعنى في ذهنه، ويتذكَّر حال شخص في فلاة لا يعرف أين السبيل، ولا يهتدي إلى الوِجهةِ التي يريد؛ كم هي حاجته حينئذ إلى هادٍ يدلُّه على الطريق، ويرشده إلى وجهته، وكذلك من يصوّب سهمًا نحو رمية، كم يدقق ويعتني عناية دقيقة بأن يصيبَ سهمُه الرمية؛ فكذلك السائرُ إلى الله -تبارك وتعالى- والطالب لرضاه سبحانه كم هو بحاجة إلى أن يُعنى هذه العناية وأن يهتم هذا الاهتمام!! فبهذا المثل العظيم الذي ضربه النبي الكريم ﷺ يتبيَّن هذا المعنى، ويتَّضح تمام البيان والوضوح .
ومن مضامين هذه الدعوة: حاجةُ الأمةِ إلى العلماء الناصحين، والأئمة المصلحين، دعاةِ الحق والهدى؛ ليبصِّروا الجاهل، وينبِّهوا الغافل، ويعلِّموا المسترشد، ويهدوا -بإذن الله تبارك وتعالى- إلى طريق الحق والهدى، قال الله -عز وجل) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). وحضورُ مجالسِ العلماءِ من مواطِن الهداية، في عِلمهم وتعليمهم زيادةُ إيمان، وعلى وجوههم سمتُ الصالحين، وعلى جوارِحهم أمارةُ نقاءِ السريرَة، مجالسُهم تذكيرٌ بسِيَر الأفذاذ من الأسلاف وشَحذٌ دائم للهِمَم إلى الآخرة، في مجالسَتِهم خيراتٌ متناثِرة وثمراتٌ يانعة، فكُن أقربَ الناس إليهم، يقول ميمونُ بنُ مهران رحمه الله: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسةِ العلماء".
ومن مضامين هذه الدعوة العظيمة: خطورةُ الضلال الانحراف، فإن ضدَ الهدايةِ الضلال، وضدَ السداد الانحراف، وهما أخطر ما يكون على العبد في هذه الحياة، فيجب على العبد أن يتقي الله -عز وجل-، وأن يحذر أشد الحذر من أن يضل عن سواء السبيل، أو ينحرف عن صراط الله المستقيم.
والقلوبُ بين إصبعَين من أصابعِ الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، ولا شيءَ من الأسبابِ أنفَعَ ولا أبلَغ من لزوم هذه الدعوة العظيمة في حصول المطلوبِ، فتضرّع بها إلى ربِّك في يومِك وليلتك واجعل هجيراك اللهم اهدني وسددني.
ومن مضامين هذه الدعوة -عباد الله-: أن الهداية والسداد بيد الله جل في علاه، فلا مهتدي ولا مستقيمَ إلا من هداه الله ووفّقه وأعانه (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الـمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا(.
فالله هو الهادي، يهدي التائهين في الصحاري، ويهدي القارئَ إلى موطن المعلومة، ويهدي المجتهدَ إلى دليل المسألة، ويهدي الداعية إلى الأسلوب الأسلم، ويهدي الأب إلى طريقة المثلى في نصح ابنه.
يهديك بما تظنّه صُدفة: يهديك بآية تسمعها في صلاة، ويهديك برؤيا تراها، ويهديك بنصيحة عابرة، ويهديك بكلمة تقع عينك عليها في كتاب، ويهديك بتأمّل، ويهديك بومضة غير مسبوقة بتفكير، ويهديك بظروف تدفعك إلى الصواب.
لا يهديك لأنّك فلان ابن فلان، بل لأنّه شاء أن يهديك! (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(.
يخرج ابن تيمية من بين البيوت، وقد ازدحمت الأقوالُ في رأسه حول تفسير آية، يقرأ عنها عشرات التفاسير، فلا تخلصه تلك التفاسير من ضوضاء الحيرة، فيمرّغ وجهه بالتراب ويبكي ويقول: "يا معلّم داوود علمني ويا مفهّم سليمان فهّمني" فيعود وقد تحددت الأقوال الراجحة في عقله بنور الهداية الربانيّة!
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأوّل ما يجني عليه اجتهادهُ
إذا أراد هدايتك، جعل ورقة ملقاة على الأرض تعيدك إليه!
تذكر كتبُ التاريخ أن رجلاً كان يترنّح في سكك مدينته مخموراً، فرأى بعينين أذبلتهما الخمرةُ ورقة ملقاة، كُتب عليها اسم الله، فاعتصر فؤاده حبّا وحزناً، وقال باكياً: اسم الله على الأرض!فحمل تلك الورقة وذهب إلى بيته فنظّفها وعطّرها وقبّلها ورفعها، ثم نام ليسمع هاتفاً يقول له: رفعتَ اسمي؟ وعزّتي لأرفعنّ اسمك، فإذا به يستيقظ على الهداية تملأ قلبه، ويتحوّل من رجل لا هدف له من هذه الحياة إلى رجل من الصالحين المعروفين في التاريخ!!
وكم في هذه الدعوة العظيمة من المعاني الجليلة وجوامع الخير، فعلينا -عباد الله- إن أردنا الخير والفلاح أن نُعنى بها في جملة دعائنا وسؤالنا وتوجهنا إلى ربنا بالدعاء، مستحضرين ما جمعته هذه الدعوة من الخير العظيم والفضل العميم.
نسأل الله -جل في علاه- أن يهدينا أجمعين، وأن يسددنا، وأن يلهمنا رُشد أنفسنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يُصلح لنا شأننا كله، إنه سميع الدعاء.
الخطبة الثانية
الحمد لله كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :أيها المؤمنون، عباد الله: اتقوا الله تعالى واستمسكوا بهداه، واعتنوا بسنة نبيكم الكريم ﷺ فإن مَثَل السُّنة مَثَل سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تركها غرِق وهلك.
أيها المؤمنون، عباد الله: ما أحوجنا، ولاسيّما في مثل هذا الزمان، الذي تفتحت فيه أبواب كثيرة من الشرور على الناس، أشغلتهم عن الله والدار الآخرة، وألْهتهم عما خلقوا له، فإن المؤمن في هذه الحياة مثله مثلُ المسافر، وكما أن المسافر بحاجة إلى هداية في طريقه، ولزوم الجادة وعدم انحراف عنها لِيصل إلى وجهته وصولاً محقَّقًا، فكذلك المؤمن في سيره إلى الله جل وعلا والدار الآخرة.
فما أحوجنا -عباد الله- أن نلزم سبيل الهداية، وأن نُعنى بتحقيق السداد، مستعينين بالله -جل وعلا-، طالبين مدده وعونه -جل في علاه-، معتنين بهذه الدعوة العظيمة الجامعة التي أرشد إليها نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه.
اللهم اهدنا وسددنا .. اللهم اهدنا وسددنا.. اللهم اهدنا وسددنا
اللهم إنا نسألك الهدى والسداد في كل خطوة نخطوها، وفي كل قول نتفوه به، وفي كل عمل نعمله.. اللهم تولنا بولايتك، واكلأنا برعايتك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين..
المرفقات
1760502973_خطبة اللهم اهدني وسددني..docx
1760502973_خطبة اللهم اهدني وسددني..pdf