المرأة والضلع: بين منطق النبوة وسوء الفهم

د مراد باخريصة
1447/01/18 - 2025/07/13 14:46PM

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وخلق له من نفسه زوجًا ليسكن إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة، نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، عباد الله:

فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بدينه القويم، واعلموا أن أعظم ما يثبت الإيمان في زمن الفتن هو التسليم لما جاء عن الله ورسوله، لا سيما حين تكثر الشبهات، وتُفتن العقول، وتُزَيَّف المفاهيم باسم الحرية والمساواة.

أيها الأحبة، لقد انتشرت في زمننا دعوات خادعة ظاهرها "إنصاف المرأة"، وباطنها الطعن في الشريعة والنيل من السنة، والتشكيك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

ومن أبرز ما يثيرونه اليوم: حديث "المرأة خُلقت من ضلع أعوج"، فيزعمون أنه انتقاص من المرأة، وتشويه لطبيعتها، وازدراء لإنسانيتها. وهيهات... هيهات! لقد جانبوا الحق، وأعرضوا عن دلالة السياق، وفاتهم الفهم الراسخ للعلماء، وغفلوا عن المقصد النبوي الكريم في هذا الحديث الشريف.

الحديث الصحيح، عباد الله، جاء بألفاظ متعددة كلّها صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا».

ولفظٌ آخر يقول: «المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج» فما المقصود من هذا الكلام؟ هل هو انتقاص من المرأة؟ أم أن فيه دروسًا عظيمة في فهم النفس البشرية، والتعامل بين الزوجين، والتوازن الأسري الذي تقوم عليه المجتمعات؟

لقد جاء هذا الحديث النبوي العظيم في سياق الوصية بالنساء، والرفق بهن، والصبر على بعض طباعهن، وليس في سياق الذم أو الانتقاص، بل هو من أعظم أبواب الرحمة، ومن أروع أساليب التربية النفسية والاجتماعية التي جاء بها الإسلام.

فالمرأة -عباد الله- خُلقت من ضلع، وهذا الضلع فيه انحناء، ولكنه انحناء مقصود، لحكمة أرادها الله. فالضلع يحمي القلب والرئتين، وهو في انحنائه يؤدي وظيفته. ولو كان مستقيماً لكُسِر، أو عجز عن أداء وظيفته! وهكذا المرأة: فيها من العاطفة واللين والرفق ما يناسب مهمتها في تربية الأبناء، ورعاية الأسرة، وبناء المجتمع على الحب والرحمة.

وهنا نطرح سؤالًا واقعيًا: كم من رجل دمر بيته لأنه أراد من زوجته أن تكون صورة منه، أو نسخة من منطقه، أو عقليةً مثل عقليته؟

ونسِي أن الاختلاف فطرة، وأن الله لم يخلق المرأة نسخةً مكررة من الرجل، بل شريكًا مكملًا له، له طبيعة تناسب الوظيفة، وله روح تبني السكينة والمودة.

أيها المسلمون، ما أكثر ما نسمع اليوم من دعاوى الحداثة والعقلانية التي تطعن في السنة، بزعم أنها مأخوذة من الإسرائيليات، أو تتعارض مع العلم أو العقل! ونسوا أو تناسوا أن منهجنا ليس قائمًا على ما تهواه العقول، بل على ما جاء به الوحي الصحيح، كما قال الإمام مالك: "العقل لا يُعرف به الدين، إنما يُعرف الدين بالنقل".

أفيُعقل أن يطعنوا في حديثٍ رواه البخاري ومسلم؟! حديثٌ بلغ أعلى درجات الصحة؟!

لو تأملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرًا" لعلموا أن المراد هو التسامح مع الطبيعة المختلفة، والصبر على العوج الذي قد يكون في التفكير أو ردود الأفعال، لا أنه ذمٌّ لطبيعة المرأة، بل دعوة لفهمها والتأقلم معها.

وها هو القرآن العظيم يؤكد هذا المعنى فيقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.

بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر».

قلتم ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم ..

الخطبة الثانية

الحمد لله وليّ الصالحين، ومعزّ المؤمنين، ومكرم الإنسان والإنسانية، ومَنّانٌ على عباده بنعمة الزوجية والمودة والرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، عباد الله:

أيها المسلمون، إن معالجة الشبهات لا تكون بالاستسلام لها، ولا بتشويه النصوص، بل بالفهم الصحيح، والرجوع إلى أقوال العلماء، والنظر في الواقع بتوازن. ونحن نرى اليوم كيف دمرت كثير من الشعارات الغربية المرأة والأسرة، فباتت المرأة سلعة إعلام، ومادة ترفيه، ومحور شهوات، ثم تُرَكت وحيدة، تعاني الاضطراب النفسي والانهيار الاجتماعي.

فلنحذر يا عباد الله من هذه الدعوات التي تفكك الأسرة وتطعن في الدين، ولنعلّم أبناءنا احترام السنة، وفقه النصوص، والثقة بوحي الله ورسوله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.

اللهم أصلح أزواجنا ونساءنا وبناتنا، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم احفظ علينا ديننا وسنة نبينا، وارزقنا الفقه في الدين، وحسن العمل به، وارزقنا معاشرة أهالينا بالمعروف، واملأ بيوتنا مودة ورحمة.

وصلّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

المرفقات

1752407198_المرأة والضلع بين منطق النبوة وسوء الفهم.doc

المشاهدات 15 | التعليقات 0