الملك الخفي ( العافية )
طلال بن فواز الحسان
الملك الخفي ( العافية )
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ الجَوَادِ الكَرِيمِ؛ بَاسِطِ النِّعَمِ عَلَى العِبَادِ،، وَإِلَيْهِ المَرْجِعُ وَالمَعَادُ. نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ العَظِيمَةِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى آلَائِهِ الجَسِيمَةِ، لاَ نُحْصِي نِعَمَه، وَلاَ نُحِيطُ بِأَلْطَافِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأزواجه وذريته إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ: نعمةٌ عظيمة ، كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْأَلُ رَبَّهُ إِيَّاهَا، وَكَثِيرًا مَا كَانَ الصَّحَابَةُ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَسْأَلُونَ نَبِيَّهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ فَيُرْشِدُهُمْ إِلَيْهَا. هِيَ أَعْظَمُ عَطَايَا الْخَالِقِ لِلنَّاسِ، وَهِيَ بَعْدَ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ. بِهَا تَصْفُو الْعِبَادَةُ، وَيَطِيبُ الْعَيْشُ، وَتَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَقِرُّ الْعُيُونُ.
مَنْ فَقَدَهَا لَمْ يَطِبْ لَهُ كُلُّ مَوْجُودٍ، وَمَنْ حَازَهَا هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَفْقُودٍ. كَمْ تَرَحَّلَ لِأَجْلِهَا المُسَافِرُونَ! وَكَمْ تَضَرَّعَ فِي طَلَبِهَا المُتَوَجِّعُونَ!
إخوة الإيمان: ما تقولونَ في دُعاءٍ اختارَهُ رسولُ اللهِ ﷺ لعمِّه العبَّاسِ -رضي الله عنه- بل وكرَّرَه عليه مرتينِ في كلِّ مرةٍ يسألُه فيها عن دُعاءٍ خاصٍ؟ بل وفي المرَّةِ الثانيةِ يقولُ له: (يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ( أي: كأنَّه يقولُ له: عليكَ بهذا الدُّعاءِ وصيَّةً من ابنِ أخيكَ. فما هو هذا الدُّعاءُ؟
جَاءَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: (سَلِ اللهَ الْعَافِيَةَ) ثُمَّ مَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى، فَقَالَ ﷺ : (يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ سَلِ اللهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). وحيثُ إن رسولَ اللهِ ﷺ ما كانَ ليُخفِيَ عن أمتِه خيراً وهو الرَّحيمُ بهم، فقد أخبَرهم بهذا الدُّعاءِ وفضلِه وهو على المنبرِ ليسمعَه الجميعُ،
فَقَدْ قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ -رضي الله عنه- عَلَى المِنْبَرِ يَومَاً ثُمّ بَكَى، فقَالَ: قامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَامَ الأوَّلِ عَلَى المنْبَرِ ثُمّ بَكَى، فقَالَ (سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ، فإِنَّ أَحَداً لَمْ يُعْطَ بعد اليَقِينِ خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ). قال ابن القيم: " العافية من أجلّ نعم الله على عبده، وأجزلِ عطاياه وأوفرِ منحه، بل العافيةُ المطلقة من أجلّ النعم على الإطلاق". ، وصدقَ واللهِ! فأيُّ طعمٍ للدُّنيا دونَ العافيةِ؟ وكيفَ سترى الحياةَ بألوانِها الطَّبيعيةِ؟ وأخبرني عن تلك الأماني والأحلامِ، هل ستبقى أو ستتلاشى مع الآلامِ؟
سيظهرُ ذلكَ واضحاً، عندما ترتفعُ درجةُ حرارتِكَ إلى قُرابةِ الأربعينَ، وتسري الحُمَّى في كلِّ ذرةٍ من جسمِك، فيلُفُّ رأسَكَ ذلكَ الصُّداعُ الأليمُ، ويشُلُّ جوارحَكَ ذلكَ التَّعبُ العظيمُ، فتصبحَ طريحَ الفِراشِ بينَ الحياةِ والموتِ، عندها لن تجدَ لِلَذيذِ الأكلِ والشرابِ طعمًا.
قال رسولِ اللهِ ﷺ :(نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)
دعا الحجاجُ بنُ يوسفَ الثَّقفيُ أعرابياً إلى مائدتِه، فقالَ له الأعرابيُ: إني صائمٌ، قالَ له الحجاجُ مُرَغِّباً: إنه طعامٌ طيبٌ، فقالَ الأعرابيُ: واللهِ ما طيَّبَه خبازُك ولا طباخُك، ولكن طيَّبتْه العافيةُ. نعم، فليحمدِ اللهَ عبدٌ قد رُزقَ صحةً في بدنِه، وليعرف قدرها قبل زوالها. أتعلمونَ -يا عبادَ اللهِ- ما هي أولُ نعمةٍ يُسألُ عنها العبدُ يومَ القيامةِ؟ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: (إِنَّ أَوَّلَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ يوم الْقِيَامَةِ -يَعْنِي الْعَبْدَ- من النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ له: أَلَمْ نُصِحَّ لك جِسْمَكَ، وَنرْوِيكَ من الْمَاءِ الْبَارِدِ؟
فينبغي علينا أن نعرفَ قدرَ هذه النِّعمةِ، ولا نستهينَ بها، وبعض الناس يرى ما رزقه الله من النعمة فيتمنى أن يبتلى ظنًا من نفسه قوة الإيمان والصبر فإذا وقع عليه البلاء عرف!
فهذا رجل أراد أن يتجلدَ على ربّه فقال:
وليسَ لي في سِواكَ حَظٌّ
فكيفما شِئتَ فامْتَحِنِّي
فابتُليَ بحصرِ البولِ فقط، فجزع وتألم فصارَ يطوفُ على الكتاتيبِ ويقولُ للأطفالِ الذينَ يحفظونَ القرآنَ: ادعوا لعمِّكم الكذابِ. أما كان الأجدر به أن يأخذ بوصية النبي ﷺ ويسألَ الله العافية؟ وأينَ هذا عن قولِ أبي بكر الصديق رضي الله عنه-: (َأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُر، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنِ ابْتَلَى فَأَصْبِرَ). قالَ رجلٌ لصاحبِه وهو يتأملُ في القصورِ الفخمة والسيارات الفارهة متسخطًا: لا أدري أينَ نحنُ حينَ قُسمتْ هذهِ الأموالُ؟ فأخذَه صاحبُه وكان أعقل منه إلى المستشفى، وقالَ له: وأينَ نحنُ حينَ قُسمتْ هذه الأمراضُ والمصائب؟
أيُّها الأحبةُ، أخبروني: ما هي الآمالُ لولا العافيةَ؟ وهل ستبقى الأموالُ عندنا غالية؟ كيفَ ستُبنى البلدان؟ وهل سيتزوجُ الإنسانُ؟ وهل سيسعى في إنجابِ الوِلدانِ؟ هل ستُعمرُ بالمُصلينَ المساجدُ؟ وهل ستمتلئ بالطُّلابِ المقاعدُ؟ وهل سنرى العُمَّالَ والموظفينَ يذهبونَ ويأتونَ في كلِّ حينٍ؟ وهل سترونَ البسمةَ على الشِّفاةِ؟ بل، هل سيكونُ لنا رغبة في الحياةِ؟. حينها سنعلمُ حقيقةَ الدُّنيا، وأنَّها بدونِ العافيةِ لا تُساوي شيئاً،
وسنقولُ صدقَ رسولُ اللهِ ﷺ حينَ قالَ (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)
تجدون الغنيَ الثري مستعداً أن يتنازل عن جميع ماله لأجل العافية، والفقيرَ مستعداً أن يثقل كاهلَه بالديون الطائلة ويتحملها لأجل العافية. ولأنَّ العافيةَ نعمةٌ غاليةٌ، فقد كانَ ﷺ يسألُها ربَّه كلَّ يومٍ في الصَّباحِ والمساءِ، وقد جاء سؤالُ العافيةِ في اليوم الواحد في أكثر من حال، وأكثر من منقلب.
و"لقد تواتر عنه ﷺ دعاؤه بالعافيةِ لفظًا ومعنى من نحو خمسين طريقًا في الصباح والمساء، وقبل المنام، وفي الصلاة، ففي كل تلك المواطنِ سأل فيها نبينا ﷺ ربه العافية. فلم يكن رسول الله ﷺ يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي (اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ اَلْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللهمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي) وكان ﷺ يقول عند النوم: (اللهم إني أسألك العافية) وكان ﷺ يقول بين السجدتين: (اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني).
أيها المسلمون سنعرفُ قيمةَ العافيةِ، عندما نرى ذلكَ الرَّجلَ القويَّ الجبَّارَ، وقد أخبرَه الأطباءُ بانتشارِ السَّرطانِ في بدنِه، فهو في مرحلةٍ مُتأخرةٍ، فإذا به يَنحلُ سريعاً سريعاً، وتخِرُّ قواه، سنعرفُ قيمةَ العافيةِ، عندما يحتارُ ذلكَ الشَّابُ في مرضِه، الذي لا يعرفُ الطِّبُ له مثيلا، فهو يتجرَّعُ الأسى جُرعاتٍ، ويموتُ كلَّ يومٍ مرَّاتٍ.
سنعرفُ قيمةَ العافيةِ، عندما ندخلُ المستشفياتِ، فنرى أنواعَ الأمراضِ والابتلاءاتِ، وعندها سنعرفُ ما نحنُ فيه من النِّعمِ. وقديماً كنا نسمع ونحنُ صغارٌ حكمةً لم نعِ معناها حتى كَبِرنا (الصِّحةُ تاجٌ على رؤوسِ الأصِّحاءِ لا يراهُ إلا المرضى)
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ، فاستغفروهُ؛ إنَّهُ هو الغفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين.
أما بعد: عباد الله ، كثير من الناس إذا سمع لفظ العافية انصرف ذهنُه إلى عافية الدنيا، من السلامة في البدن والأهل والمال ومن الأمراض وحصر مفهومَ العافيةِ في ذلك، إن أساسَ العافية التي ينبغي أن نستحضرها ونحن نلهجُ بسؤال الله إياها عافيةُ الدين.
وأعظم سلامة للمرء أن يسلم له دينه من الكفر والشرك والبدع والضلالات والمعاصي، فلا أمانَ للعبد في دنياه، ولا سعادةَ له في أخراه إلا بسلامة الدين وصيانة التوحيد والعقيدة قال الله: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) فأعظم العافيةِ أن يسلم لك دينُك في الدنيا فتعافى في الآخرة. وقد جاء في بعض روايات حديث العباس المتقدم ( فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت).
وحتى يستقيمَ لك أمرُ العافيةِ الشاملة، وتسيرَ إلى الله محوطًا بالسلامة من كل شيء فسل ربك ثلاثًا: العفوَ، والعافيَة، والمعافاة، فالعفو: الأمن من كل شر فات، والعافية: الأمن من كل شر حاضر، والمعافاة: الأمن من كل شرر قادم، فقد جاء عنه ﷺ الأمر بسؤال الله العفو والعافية والمعافاة .
فأما أنتم يا أهلَ البلاءِ، فعزاؤكم أن لكم رباً في السَّماءِ، ما منعكم إلا ليُعطيَكم، وما حرمَكم إلا ليُكرمَكم، وما ابتلاكم إلا لمحبتكم،
فعليكم بالرِّضا، قالَ ﷺ (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).
وسيتمنى أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ لو أُصيبوا بأعظم مما أُصبتم به إذا رأوا ما خصَّكم اللهُ -تعالى- به من الكرامةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ).
حينها ستنسونَ كلَّ ما أصابَكم من البأساءِ والضَّراءِ، وستعرفونَ عاقبةَ الصَّبرِ على البلاءِ، كما جاءَ في الحديث ( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ! مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ!”،
فإنما هي ساعاتٌ وأيامٌ، فتذهبُ الآلامُ، وتُقبلونَ على ذي الجلالِ والإكرامِ، وتدخلونَ دارَ السَّلامِ، خالدينَ فيها بصحةٍ وعافيةٍ وسلامٍ.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وفي ديننا ودنيانا، اللهم إنا نسألك اليقين والمعافاة التامة في الدين والدنيا والأهل والمال يا رب العالمين..
المرفقات
1750912874_الملك الخفي ( العافية ).pdf
1750912876_الملك الخفي ( العافية ).docx