بادر بصنع السفينة

سامي بن محمد العمر
1446/11/24 - 2025/05/22 08:33AM
بادرْ بصنع السفينة

أما بعد:
فالدنيا بحر متلاطم مخيف لا بدَّ من قطعه إلى حيث السعادة والأمان والراحة.
والماء إما أن يخاض بالأرجل أو يُجتاز سباحة أو يقطع ركوباً على قارب أو سفينة.
ولكنه البحر! لا يغني فيه خوض الخائضين ولا مهارة السابحين، ولا مناص من صنع مراكب النجاة التي دلَّ على أهميتها العقل الصريح والنقل الصحيح.
وفي الناس مغرورون وبطّالون وغافلون وجاهلون: أغرتهم قدرتهم على السباحة وإجادتهم لفنون الغوص فظنوا أن الدنيا ببحرها العظيم كبِركة سباحة صغيرة؛ فأخذوا يتلاعبون ويتقلبون ويمرحون ويتمازحون والوقت يمضي والدقائق لا تعود، والغفلة عن صنع سفينة نجاتهم تضرب في عقولهم أطنابها، وتبني في أفكارهم خيامها؛ فلم تعد نصائح الناصحين تجدي معهم نفعًا ولا تحرك فيهم تفكيرًا؛ حتى هاج عليهم البحر وعلت أمواجه فقاوموا قليلا حتى خارت قواهم، ولم يبحثوا عن سفن النجاة لأنهم في وقت الرخاء لم يصنعوها، حتى أدركهم الغرق وخسروا مكان السعادة الحقيقي إذْ لم يسمعوا القول ولم يستجيبوا النصح.
وهذا حال الكثير من أهل الدنيا: لاهون عن صنع سفن نجاتهم وهي الأعمال الصالحة، تغرُّهم دنياهم بلذاتها وزخرفها وبهرجها وتغريهم بجمالها وفتنتها.
"والعجبُ كلُّ العجب من غفلةِ من تُعَدُّ لحظاته، وتحصى عليه أَنْفَاسُهُ، ومطايا الليل والنَّهار تُسْرِع به، ولا يتفكر إلى أين يُحْمَلُ؟ ولا إلى أيِّ منزلٍ يُنْقَل؟
وكيفَ تنَامُ العَينُ وهي قَرِيرَةٌ ... ولم تَدْرِ في أَيِّ المَحَلَّينِ تَنْزِلُ؟"( ).
والله تعالى رحيم بعباده، قد أنذرهم وحذرهم، وأرسل لهم رسلهم مبشرين ومنذرين، وأبان للناس حقيقة الدنيا وأنها دار عمل وممر وأن الآخرة دار جزاء ومستقر:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32]
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]
{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]
فهنيئا لمن اتعظ قبل فوات الأوان، وبادر بصنع سفينة النجاة والأمان، وتمسك بحبل الله قبل أن تضيع الأعمار ويحِل الندم والخسار.
فانظر لنفسك الآن أما زالت روحك في جسدك، أما زالت أنفاسك تتردد، أما زال قلبك ينبِض؟ إذن فأنت تستطيع أن تقدم لحياتك فبادر، وخض بحار الصالحات وغامر، وأدرك فضل الله في مواسم الطاعات وحاذر.
وحاذر أن تسلب منك لذة الطاعةِ بسبب الإعراض، ولذة الرغبةِ في الخير بسبب الغفلة، واعلم أنك تتاجر مع رب كريم ما أجزله، إن جئته تمشي أتاك هرولة.
بارك الله لي ولكم.. الخطبة الثانية
أما بعد:
من غرائب الأمور أن يتذكر المرء كل شيء من اللذات الفانيات، وينسى نفسه من الباقيات الصالحات؛ فلا يزرع لها زاداً من الأعمال الفضيلة، ولا يدخر لها متاعاً في حياتها الطويلة.
ألا إنه لن يمر بكم زمان أفضل لفعل الطاعات مما أنتم مقبلون عليه من عشر ذي الحجة، ولا أحد يماري أن من مدّ الله في عمره، وفسح في أجله حتى أدركها فأحسن فيها العمل؛ فإن الله قد أراد به هدى وخيرا، وأناله جودا منه وفضلا.
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللَّه عَنْهُمَا، قالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "مَا مِنْ أَيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيها أَحَبُّ إِلى اللَّهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ" يعني: أَيامَ العشرِ، قالوا: يَا رسولَ اللَّهِ وَلا الجهادُ في سبِيلِ اللَّهِ؟ قالَ: "وَلاَ الجهادُ فِي سبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ، وَمَالِهِ فَلَم يَرجِعْ منْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" رواه البخاريُّ.
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد دلت هذه الأحاديث على أن العمل في أيام ذي الحجة أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده"( ).
ومن صور صدق الطاعة والامتثال ما جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي: فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي» وفي رواية (( فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئا)) رواه مسلم.
المرفقات

1747891992_بادرْ بصنع السفينة.pdf

1747892000_بادرْ بصنع السفينة.docx

المشاهدات 306 | التعليقات 0