حامل المسك ونافخ الكير
هلال الهاجري
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:
فإنَّ أحسنَ الحديثِ كلامُ اللهِ تَعَالى، وخيرَ الهَدي هديُ مُحمدٍ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، وشرَّ الأمورِ مُحْدثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.
مِن أَسَاليبِ القُرآنِ والسُّنَّةِ فِي تَقريبِ المَعَاني لِلأَفهَامِ، ضَربُ الأَمثَالِ البَديعَةِ بِأَسهَلِ أَلفَاظِ الكَلامِ، فَتَنجَذِبُ الأَسمَاعُ إلى جَمالِ وَرِقَّةِ الخِطَابِ، ثُمَّ تَنكَشِفُ المَعَاني الغَزيرةُ لِذَوي الأَلبابِ، واسمَعُوا إلى هذا المَثَلِ فِي بَيَانِ أَنوَاعِ الأَصحَابِ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)، فَتَعَالوا نَتَجَوَّلُ فِي رِحَابِ هَذا المِثَالِ، لِنَنظرَ إلى مَا فِيهِ مِن جَمالٍ وَجَلالٍ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، كُلُّ إنسَانٍ يَتَأَثَرُ بِمَن حَولَهُ مِنَ الأَصدِقَاءِ، ولَكِنْ يَختَلِفُونَ فَمِنهُم دَاءٌ وِمِنهُم شِفَاءٌ، ولِذَلِكَ جَاءَ فِي الحَديثِ: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)، فَإذا نَظَرَتَ إلى الجُلَسَاءِ والخُلَّانِ، يَتَضِّحُ لَكَ جَليَّاً حَالُ الإنسانِ.
عَنِ المرءِ لا تَسَلْ وسَلْ عن قَرِينِهِ *** فكُلُّ قَرِينٍ بالمُقَارَنِ يَقْتَدِي
فَإِنْ كَانَ ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعَةً *** وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي
وَصَفَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجَليسَ الصَّالحَ بِحَاملِ المِسكِ والطِّيبِ، الذي يَستَفيدُ مِنهُ جَليسُهُ عَلَى كُلِّ أَحوَالِهِ فَلا يَندَمُ ولا يَخِيبُ، (فَإمَّا أَن يُحذِيَكَ) أَيْ: يُعطِيَكَ هَديَّةً مِن المِسكِ الفَوَّاحِ، فَتَرجِعُ بِمَا تَأنَسُ لَهُ الحَوَاسُّ والأَرواحُ، وَكَذَلِكَ الجَليسُ الصَّالِحُ إذا جَلستَ مَعَهُ أَهدَاكَ المَوعِظَةَ والنَّصِيحَةَ، وأَرشَدَكَ إلى الأَخلاقِ الفَاضِلَةِ والقِيَمِ الصَّحِيحَةِ، وهَكَذَا كُلٌّ مُنهُمَا يَهدي إلِيكَ النَّافِعَ والمُفِيدَ، فَهَنيئاً لِمَن جَالَسَهُمَا هَذَا الحَظُّ السَّعِيدُ.
(وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ) أَيْ: تَشتَري مِنهُ المِسكَ الأَصلِيَّ الخَاليَّ مِنَ الغِشِّ والآفَاتِ، فَتُهدِي لِلأَحبابِ وتَتَطَيَّبُ لِلصَّلاةِ والمُنَاسَبَاتِ، وَكَذَلِكَ الجَليسُ الصَّالِحُ تَستَشِيرُهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ والدُّنيَا، فَيُشِيرُ عَليكَ بالرَّأيِ الخَالصِ والمَطَالبِ العُليَا، وَهَكَذَا كُلٌّ مُنهُمَا تَستَخرِجُ مِنهُ أَجمَلَ النَفَحَاتِ والعَطَايَا، فَتَفُوحُ رَائحَةُ المِسكِ مِنَ الإرشَادَاتِ والوَصَايَا.
(وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً) أَيْ: تَرجِعُ مِنهُ وَقَد عَلَقَتْ فِي ثِيَابِكَ رَائحةُ المِسكِ القَويَّةُ، فَكُلَمَا مَرَرتَ بِقَومٍ قَالوا: مَا أَطيَبَ هَذِهِ الرَّائحَةُ الزَّكيَّةُ، وَكَذَلِكَ الجَليسُ الصَّالِحُ تَلتَصِقُ بِكَ سُمعَتُه الطَّيبَةُ النَّبيلَةُ، فَيَمدَحُكَ النَّاسُ بِمُصَاحَبَتِكَ لأَصحَابِ الأَخلاقِ الفَاضِلَةِ الأَصِيلَةِ، وهَكَذا كُلٌّ مِنهُما يُصِيبُكَ مِنهُ الأَثَرُ الجَميلُ، فِي رائحَةٍ طَيِّبَةٍ وَذِكْرٍ جَليلٍ.
وَأَمَّا الجَلِيسُ السَّوْءُ كَنَافِخِ الكِيرِ الذي يُشعِلُ النَّارَ، فَيَتَصَاعَدُ الدُّخَانُ ويَتَطَايَرُ الشَّرارُ، (فَإِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ) أَيْ: تُصِيبُ ثَوبَكَ مِن نَفخِهِ جَمرَةٌ أَو شَرَارَةٌ، فَيَضِيعُ الثَّوبُ الجَدِيدُ حَسرةً وخَسَارةً، وَكَذَلِكَ الجَليسُ السَّوْءُ يَأتِيكَ بِمُصِيبَةٍ فِي دُنيَاكَ وآخِرَتِكَ، فَلا يُعينُكَ عَلى فَلاحِكَ ولا صَلاتِكَ وطَاعَتِكَ، بَل قَد تَجِدُ نَفسَكَ بِسَبَبِهِ خَلفَ القُضبَانِ، قَد خَسَرتَ الأَهلَ وَالوَظِيفَةَ والأَمَانَ، وهَكَذا كُلٌّ مِنهُما يَأتيكَ بِالخَسَارةِ والآثَامِ، وتَحتَرِقُ فِي مَجَالِسِهم الثِّيابُ والمُستَقبَلُ والأَحلامُ.
(وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) أَيْ: تَعلَقُ فِي ثِيَابِكَ رَوَائحُ الدُّخَانِ الكَريهَاتِ، فَيتَأذَّى النَّاسُ مِن رائحتِكَ فِي المَجَالِسِ والطُّرُقَاتِ، وَكَذَلِكَ الجَليسُ السَّوْءُ تَضُرُّكَ سُمعَتُهُ السَّيئةُ اللَّئيمَةُ، وَتُذكَرُ عِندَ النَّاسِ بِالأَوصَافِ السَّافِلَةِ الذَّمِيمَةِ، وهَكَذا كُلٌّ مِنهُما تَحضُرُ مَجلِسَهُ بَينَ نَارٍ ودُخَانٍ وَشَرٍّ وبَطَالةٍ، فَتَخرُجُ برائحَةٍ خَبِيثَةٍ وسُوءِ سُمعَةٍ وسُقُوطِ عَدَالَةٍ.
أقولُ قَولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي اصطفى لمحبتِه الأخيارَ، وصَرَّفَ قُلوبَهم في طاعتِهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه من مهاجرينَ وأَنصارٍ، ومن سارَ على نهجِهم، أمَّا بعدُ:
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، مَسأَلَةُ الأَصحَابِ والجُلَساءِ لَيستَ مَسأَلَةً ثَانَويَّةً وهَامِشِيَّةً، بَل هِيَ مِن الأُمُورِ الأَسَاسِيَّةِ والمَصِيريَّةِ، وإذا كَانَ جَاءَت الوَصيَّةُ الرَّبَانيَّةُ لِرَسولِ الهُدَى عَليهِ الصَّلاةُ السَّلامُ وهُوَ إمَامُ الأَتقِيَاءِ، بِالعِنَايَةِ فِي اختِيَارِ الأَصحَابِ والصَّبرِ عَلى صَالحِ الأَصدِقَاءِ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فَكَيفَ بِنَا نَحنُ؟، وَصَدَقَ القَائلُ:
وَاِختَر قَرينَكَ وَاِصطَفيهِ تَفاخُراً *** إِنَّ القَرينَ إِلى المُقارَنِ يُنسَبُ
فَالجَليسُ والصَّاحِبُ السَّوءُ مَعَ مَا فِي دُنيَاهُ مِنَ الأَلَمِ، قَد يَكُونُ سَببَ الخَسَارةِ فِي يَومٍ لا يَنفَعُ فِيهِ النَّدَمُ، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا)، فَانتَبِهِ اليَومَ قَبلَ الضَّيَاعِ، وفِرَّ مِنهُ فِرارَكَ مِنَ السِّبَاعِ.
وَاِحذَر مُصاحَبَة اللَئيمِ فَإِنَّهُ *** يُعدي كَما يُعدي الصَحيحَ الأَجرَبُ
وَأَمَّا الجَليسُ الصَّالحُ فَإنَّهُ لا ينسَى صَاحِبَهُ حَتى فِي أَحلَكِ الظُّروفِ، جَاءَ فِي الحَديثِ: (حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ، -يُنَاشِدُونَ اللهَ تَعَالى فِي إخوَانِهم الَّذِينَ فِي النَّارِ-، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ)، فَاللهمَّ جَليساً صَالِحَاً.
ما عاتَبَ الحُرَّ الكَريمَ كَنَفسِهِ *** وَالمَرءُ يُصلِحُهُ الجَليسُ الصالِحُ
اللهمَّ ارزقنا خَيرَ الأصدقاءِ، وعِيشةَ السُّعداءِ، ومِيتةَ الشُّهداءِ، وحَياةَ الأتقياءِ، ومُرافقةَ الأنبياءِ، اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذلَّ الشِّركَ والمُشركينَ، ودَمِّرْ أَعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ اجعل هذا البلدَ آمناً مطمئناً وسَائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ أَدمْ علينا نعمةَ الأمنِ والإيمانِ، والسَّلامةِ والإسلامِ، اللهمَّ ارفع عنا الغلاءَ والوباءَ، والزَّلازلَ والمحنَ، وسوءَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، عن بلدِنا هذا خَاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ عَامةً يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أمرِنا لكلِّ خيرٍ، اللهمَّ هيئ لهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تعينُهم على الخيرِ وتدلُهم عليه، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
المرفقات
1752675396_حامل المسك ونافخ الكير.docx
1752675403_حامل المسك ونافخ الكير.pdf