خطبة أسطورة هيكل سليمان
شادي باجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة: أسطورة هيكل سليمان، أ. د. صالح دعكيك، مسجد آل ياسر، حضرموت، المكلا، 2/5/2025م
*الحمد له رب العالمين.
تمثل قضية فلسطين أحد أهم قضايا المسلمين، بل هي القضية الرئيسة والمحورية، لأنها ترتبط بثالث المسجدين وأولى القبلتين، ومسرى خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وأنها الأرض المباركة، وتقع في خاصرة العالم العربي.
يضاف إلى ذلك أن المغتصبين لها هم الأشد عداوة للذين آمنوا، كما قال تعالى: )لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا(. المائدة (82). وأنهم اغتصبوا فلسطين بدعوى الحق الديني، والحق التاريخي؛ فطبيعة الصراع معهم ليست فقط عسكرية أو سياسية، باعتبارهم قوة استعمارية، وإنما أساس الصراع هو البعد الديني، سواء عند المسلمين أو اليهود.
إن بيت المقدس هو قبلة المسلمين الأولى، وهو قبلة الأنبياء من قبلهم، واليهود يدعون أن قبلتهم المعبد الذي شيده سليمان عليه السلام، والذي يطلقون عليه: "هيكل سليمان"، كما يدعون أن المسجد الأقصى بنى على أنقاض الهيكل المزعوم!!
وحتى لا نقعَ في حبائل اليهود، ونؤتَى مِن غفلتنا، لا بُدَّ من الوقوف على مُخططاتهم ومكرهم الكُبَّار تجاه قضايا المسلمين؛ إذ إن استبانة سُبُل المجرمين منهجٌ رباني مُقرَّرٌ في كتاب ربنا، (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ). الأنعام: (55).
روى مسلم (520) عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنةً).
وأول مسجد بني على وجه الأرض لعبادة الله تعالى وحده هو المسجد الحرام، كما قال تعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ). آل عمران(96)، ، قال علي رضي الله عنه : كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله تعالى .
ولما عاد الخليل إبراهيم إلى فلسطين بعد بنائه للكعبة المشرفة عيَّن الله له الموضع الذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذريته، فأقام هنالك مسجدا صغيرا بأربعين سنة من بناء الكعبة، ثم بناه يعقوب عليه السلام، هو المسجد الأقصى.
قال ابن كثير رحمه الله: (وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَسْجِدُ إِيلِيَا، وَهُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ، وَهَذَا مُتَّجِهٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ). البداية والنهاية " (1/375).
وغني عن البيان أن يقال: إن هذا المسجد الأقصى لم يُبْنَ على أنه معبد خاص باليهود، بل بُنِيَ مسجدا للمؤمنين الموحدين، يعبدون الله تعالى فيه.
وحسب الرواية اليهودية: فإن داود عليه السلام هو الذي أسس لبناء الهيكل، ولكنه مات قبل أن يشرع في بنائه، وأن ابنه سليمان عليه السلام هو الذي قام ببناء الهيكل فوق جبل موريا، المعروف باسم هضبة الحرم ، وهو المكان الذي يوجد فوقه المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة.
وفي عهد القائد البابلي بُخْتَنَصَّر تم على يده تدمير مدينة القدس ودمر الهيكل وأحرقه عام 586 ق . م ، وأخذ معه آلافا من اليهود وسباهم إلى بابل ، فيما عرف في التاريخ بالسبي البابلي، وبعد ذلك بعشرات السنين سُمح لليهود المأسورين في بابل بالرجوع إلى القدس ، فرجعوا إليها وأعادوا بناء الهيكل نحو سنة 521 ق . م .
ثم تم دمر الهيكل مرة أخرى على يد "تيطس" ابن الامبراطور الروماني "سباستيان"، عام (70 ميلادي) حيث دمره تدميراً كاملاً.
ثمتشتت اليهود في جميع بقاع الأرض، بسبب غدرهم، وقتلهم الأنبياء ، وعصيانهم لله – كما يقول اليهود أنفسهم – فذهبوا إلى الجزيرة العربية والعراق ومصر وأوروبا، ونسي اليهود القدس ، ونسوا الهيكل، إلى أن جاء القرن التاسع عشر الميلادي، وأُسست الحركة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل ، فأخذوا يقلبون صفحات التاريخ المطوية، للبحث عن أية مزاعم يهودية تبرر لهم الرجوع إلى القدس .
فصاروا يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات، وكان أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م بقيادة هرتزل، بهدف إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، حتى يتمكنوا من إعادة بناء الهيكل .
يدعي اليهود أن حائط المبكي ويقع في الجهة الغربية من المسجد الأقصى، هو من بقايا هيكل سليمان!!، ويدعون أيضا أن المسجد الأقصى بني على أنقاض الهيكل، وأن عودة ملكهم لن تكون إلا بالرجوع إلى القدس وإعادة بناء الهيكل مما يعني أنه لابد من هدم المسجد الأقصى لإعادة بناء الهيكل، وأن مملكة اليهود لن تقوم إلا بذلك، وأن الهيكل هو أقدس مكان على وجه الأرض!!
وفي هذا الصدد قال بن غوريون: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل".
هذه باختصار قصة الهيكل كما يؤمن بها اليهود.
وفي الواقع: إن سليمان عليه السلام جدد بناء بيت المقدس، وأن بناء الهيكل أسطورة من أساطير اليهود، وهناك أدلة عديدة كلها تدل على بطلان نسبة الهيكل لسليمان عليه السلام، من هذه الأدلة :
أولا: أن القرآن الكريم قص علينا قصة داود وسليمان عليهما السلام في عدة مواضع، وذكر قصة سليمان مع الجن وبلقيس والهدهد والنملة، وبعض هذه الأحداث تبدو أقل أهمية من الهيكل! فلماذا لم يتكلم القرآن الكريم عن الهيكل؟ إذا كان بهذه القدسية والجلالة التي يذكرها اليهود؟!
ثانيا: أنه لا وجود لذكر لهذا الهيكل إلا في كتب اليهود، وهي كتب لا يوثق بما فيها، حتى الكتاب المقدس نفسه قد اعترف كثير من علماء اليهود والنصارى والمؤرخين أنه امتدت إليه أيدي التحريف والتلاعب، والزيادة والنقصان، مما يعني أنه لم يعد مصدرا تاريخيا موثوقا به.
وممن شكك في ذلك: "ول ديورانت" صاحب كتاب "قصة الحضارة" ، و"باروخ سبينوزا" الفيلسوف اليهودي، والطبيب الفرنسي موريس بوكاي الذي ذكر أنها تختلط الأحداث بالأساطير، وأن فيها أخطاء متعددة.
يقول صاحب موسوعة بيت المقدس: "إن بناء الهيكل هو خرافي وخيالي، نَسبَهُ اليهود إلى سيدنا سليمان، وقصة بناء الهيكل لا يعترف بها التاريخ ، وليس لها مصادر إلا كتب يهود " .
ثالثا: أن اليهود أنفسهم لا يتفقون على هيكل واحد، ومكان واحد، فيهود مملكة السامرة يقولون: إن هيكلهم في مدينة "نابلس" ، وليس في "القدس" ، وآخرون يقولون : إنه في قرية "بيتين" شمال القدس ، ومجموعة ثالثة تقول: إن هيكلها أقيم على تل القاضي "دان"، وهذا يؤكد أسطورة الهيكل، ولا وجود لهذه الهياكل ولم يعثر لها على أثر.
رابعا: تقديس "الهيكل" أو يسمى ببيت الآلهة، هو عقيدة وثنية قديمة، كانت موجودة في الدول الوثنية القديمة في العراق وسوريا ومصر، فكانوا يعتقدون أن الآلهة تسكن في السماء ، وأنها إذا رغبت النزول إلى الأرض فلا تكون إقامتها إلا في بيوت كبيرة كالهيكل .
وقد ذهب بعض الباحث "أحمد سوسة" الذي اعتنق الإسلام بعد اليهودية ، إلى التشكيك في فكرة الهيكل كما جاءت في الكتاب المقدس عند اليهود ، وذهب إلى أنها فكرة دخيلة على اليهودية ، وأنها فكرة كنعانية وثنية .
خامسا: لم تسنح الفرصة لليهود طوال ما يقرب من ألفي عام لتحقيق حلمهم التاريخي ، إلا في هذا القرن، بعد أن عادوا للاستيطان في أرض فلسطين ، وبعد احتلالهم لمدينة القدس بعد حرب عام 1967م ، حيث وقع المسجد الأقصى أسيراً تحت أيديهم، بعد ما يقرب من عشرين قرنا من شتاتهم في الأرض!!
وبدأت دولة الاحتلال الصهيوني بعمليات الحفر تحت المسجد الأقصى للبحث عن آثار وبقايا هيكل سليمان المزعوم سنة 1968 م، إلا إن النتائج لحد اليوم بعد (57) سنة من العمل الجاد كانت مخيبة للآمال، ولم يعثروا على شيء!!
وقد ذكر عالم الآثار اليهودي "إسرائيل فلنكشتاين" أن علماء الآثار لم يعثروا على أي شواهد أثرية تدل على أن الهيكل كان موجودا بالفعل، واعتبر أن فكرة وجود الهيكل هي مجرد خرافة لا وجود لها ، وأن كَتَبَة التوراة في القرن الثالث : أضافوا قصصا لم تحدث .
وذكر هذا أيضا غيره من علماء الآثار الذين شاركوا في الحفريات تحت المسجد الأقصى، فقد صرح عالم الآثار الأمريكي "غوردن فرانز" أنه لا توجد دلائل على وجود الهيكل في أسفل المسجد الأقصى، ولما سئل: أين موقع الهيكل؟ أجاب : لا أعرف ، ولا أحد يعرف .
هذا ؛ مع أن علماء الآثار عثروا على بعض أشياء سابقة لزمن داود وسليمان ، وأخرى لاحقة ، وهذا من أقوى الأدلة على أن "هيكل سليمان" ما هو إلا خرافة ، سطرتها أيدي كتبة "الكتاب المقدس" ونسبوها إلى الله زورا وبهتانا ، وهؤلاء هم الذي قال الله فيهم : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). البقرة (79) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وأياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم،
أقول ما تسمعون .....
((الخطبة الثانية))
لم يذكر أحد من المؤرخين أن المسلمين لما دخلوا القدس في عهد عمر بن الخطاب وجدوا بها معبدا من معابد اليهود وهدموه، وأقاموا مكانه مسجدا.
إن كل هذه الأدلة والشواهد – وغيرها – تدل على أن قضية الهيكل هي مجرد أكاذيب، كتبها كتبة "الكتاب المقدس" ، ونسبوها إلى الله ، لربط اليهود بتلك المدينة ، وحثهم على الرجوع إليها ، باعتبار أن ملكهم لن يتم إلا باستعادة ذلك الهيكل المزعوم .
ومقصود الصهيونية السياسية المعاصرة احتلال المقدسات، والاستعلاء في الأرض والتوسع في محيط الدول العربية، وتحقيق إسرائيل الكبرى كما يزعمون، لا أقام الله لهم دولة، ولا حقق لهم غاية، ولا رفع لهم راية، وخذلهم ونصر أمة محمد عليهم.
ورد في " دائرة المعارف البريطانية " طبعة 1926 م : " أن اليهود يتطلعون إلى اجتماع الشعب اليهودي في فلسطين ، واستعادة الدولة اليهودية ، وإعادة بناء الهيكل وإقامة عرش داود في القدس ثانية وعليه أمير من نسل داود " .
إن البناء الذي ثبت أن سليمان عليه السلام بناه ليكون معبدا هو "المسجد الأقصى" ، فقد أعاد عليه السلام بناءه وجدده ، وقد أقر ببناء سليمان للمسجد الأقصى المؤرخ النصراني ابن العبري (توفي سنة 1286م ) فقال : "وفي السنة الرابعة من ملكه ، شرع سليمان في بناء بيت المقدس ، وهو المعروف بالمسجد الأقصى " .
وقد ثبت ذلك في السنة الصحيحة، فقد جاء في حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (لما فرغ سليمان بن داود - عليه السلام - من بناء بيت المقدس , سأل الله - عز وجل خلالا ثلاثة: سأل الله حكما يصادف حكمه فأعطاه الله إياه , وسأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده , فأعطاه إياه، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة). رواه أحمد (6644)، وابن ماجة (1408), صحيح الجامع: (2090).
إنه يلزمنا معاشر المسلمين أن نكون على دراية بحيل القوم وشبهاتهم، وأن نقف على حقائق التاريخ والجغرافيا، لتنكشف أ،ساطيرهم، وتتبين أكاذيبه، ولتعلم أجيالنا تلك الألاعيب اليهودية، ويكونوا على جلية من الأمر.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واخذل الكفرة والملحدين، وارفع راية الدين، وأهلك اليهود ومن شايعهم أجمعين، شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، ونجي المستضعفين في غزة وفلسطين، أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك المؤزر المبين، واجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.
اللهم أبرم لأمتنا أمرا رشدا، يعز فيه طاعتك، ويذل أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا ذا الجلال والإكرام.
والحمد لله رب العالمين.