خطبة : ( السهر وإضعاف العبودية لله )
عبدالله البصري
السهر وإضعاف العبودية لله 23/ 1/ 1447
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في الإِجازَةِ وَعُطلَةِ الأَبنَاءِ ، تَختَلِفُ أَحوَالُ النَّاسِ قَلِيلاً عَمَّا كَانُوا عَلَيهِ في أَيَّامِ الدِّرَاسَةِ ، بَينَ بَاقٍ في بَلَدِهِ مُلازِمٍ بَيتَهُ ، وَمُسَافِرٍ سَائِحٍ في الأَرضِ مُمَتِّعٍ نَفسَهُ ، وَمُستَثمِرٍ وَقتَهُ فِيمَا يَنفَعُهُ ، وَمُضِيعٍ لَهُ غَيرِ مُهتَمٍّ بِهِ ، وَأَيًّا كَانَتِ الحَالُ ، فَإِنَّ مِمَّا يَجِبُ أَن يَنتَبِهَ إِلَيهِ عُقَلاءُ الآبَاءِ وَالنُّجَبَاءُ مِنَ الأَبنَاءِ ، أَنَّ الإِجَازَةَ وَإِن كَانَت فَرَاغًا مِنَ أَخذِ بَعضِ العِلمِ في المَدَارِسِ النِّظَامِيَّةِ ، فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ بِحَالٍ وَلا في أَيِّ وَقتٍ أَن تَتَوَقَّفَ التَّربِيَةُ وَلا أَن يَختَلَّ التَّعلِيمُ وَالتَّوجِيهُ ، وَلا أَن يُعبَثَ بِمَا أُحكِمَ سَابِقًا أَو يُهدَمَ ما بُنِيَ فِيمَا مَضَى ، بِتَركِ الحَبلِ عَلَى الغَارِبِ لِمَن في البُيُوتِ ، لِيَعِيشُوا حَيَاةً فَوضَوِيَّةً لا حُدُودَ لَهَا وَلا قُيُودَ ، وَلا أَوَّلَ لِلهَزلِ وَالكَسَلِ فِيهَا وَلا آخِرَ . أَجَل أَيُّهَا العُقَلاءُ ، إِنَّ فَرَاغَ المَرءِ مِن عَمَلٍ أَو تَخَفُّفَهُ مِن مَسؤُولِيَّةٍ مَا ، لا يَعني أَنَّ حَيَاةَ الجِدِّ قَد تَوَقَّفَت ، أَو أَنَّهُ قَد حَانَ الوَقتُ الَّذِي يَنقُضُ فِيهِ مَا فَتَلَ ، أَو يُفسِدُ مَا أَصلَحَ ، فَتِلكَ وَاللهِ طَرِيقَةُ المَجَانِينِ وَسَبِيلُ المَعتُوهِينَ ، وَأَمَّا العُقَلاءُ وَذَوُو الأَلبَابِ ، فَكُلُّ فَرَاغٍ عِندَهُم مِن عَمَلٍ مَا ، فَهُوَ بَدءٌ في عَمَلٍ آخَرَ ، وَكُلُّ تَخَفُّفٍ مِن مَسؤُولِيَّةٍ أَو حِملٍ ، فَهُوَ فُرصَةٌ لِمُرَاجَعَةِ النَّفسِ لِمُحَاسَبَتِهَا وَتَقوِيمِهَا ، وَرَسمِ مَسَارِهَا في قَادِمِ أَيَّامِهَا ، فَالإِنسَانُ في صُبحِهِ وَمَسَائِهِ وَفي لَيلِهِ وَنَهَارِهِ ، وَفي حَلِّهِ وَتَرحَالِهِ وَفي سَفرِهِ وَاستِقرَارِهِ ، وَفي زَمَانِ عَمَلِهِ وَفي وَقتِ رَاحتِهِ ، هُوَ عَبدٌ للهِ ، مَخلُوقٌ لِعِبَادَةِ مَولاهُ ، مَأمُورٌ بِالطَّاعَةِ كُلَّ حَيَاتِهِ ، مَنهِيٌّ عَنِ المَعصِيَةِ طُولَ عُمُرِهِ ، لَهُ حُدُودٌ وَمَعَالِمُ يَجِبُ أَن يَقِفَ عِندَهَا ، وَنِهَايَةٌ لا بُدَّ أَن يَنتَهِيَ إِلَيهَا ، وَعَلَيهِ مَلائِكَةٌ حَافِظُونَ كِرَامٌ كَاتِبُونَ ، يَعلَمُونَ مَا يَفعَلُ بِمَا عَلَّمَهُمُ اللهُ وَكَلَّفَهُم بِهِ ، وَثَمَّ مَلائِكَةٌ آخَرُونَ يَتَعَاقَبُونَ ، مَلائِكَةٌ بِاللَّيل وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَبَينَ أَيدِيهِم سِجِلاَّتٌ وَكُتُبٌ لا تُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَاللهُ تَعَالى مُحِيطٌ عِلمُهُ بِكُلِّ شَيءٍ ، وَلا يَخفَى عَلَيهِ مِن الأَمرِ شَيءٌ ، وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وَمَن عَلِمَ بِذَلِكَ عِلمًا لا شَكَّ فِيهِ ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ وُجُودَهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ لم يَكُن إِلاَّ لِحِكمَةٍ ، وَفَقِهَ هَذِهِ الحِكمَةَ تَمَامَ الفِقهِ ، فَإِنَّهُ يَضَعُ كُلَّ أَمرٍ في مَوضِعِهِ ، فَيَنَامُ وَقتَ النَّومِ ، وَيَعمَلُ في وَقتِ العَمَلِ ، وَيَستَرِيحُ بِقَدرِ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ جَسَدُهُ وَيَعُودُ إِلَيهِ نَشَاطُهُ ، وَيٌؤَدِّي الفَرَائِضَ كَمَا أَرَادَ اللهُ وَقَضى ، وَيَجتَنِبُ المُحَرَّمَاتِ وَيَبتَعِدُ عَنها ، وَبِهَذَا يَجِدُ الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ في دُنيَاهُ قَبلَ أُخرَاهُ ، وَتَرتَاحُ نَفسُهُ وَيَطمَئِنُّ قَلبُهُ ، وَيَسعَدُ وَيَتَّسِعُ رِزقُهُ وَتَتَيَسَّرُ أُمُورُهُ ، وَيَنشَرِحُ صَدرُهُ وَيَهدَأُ بَالُهُ وَيُسعِدُ مَن حَولَهُ ، قَالَ تَعَالى : " مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى . وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجزِي مَن أَسرَفَ وَلم يُؤمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبقَى " أَلا فَلنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى خَلَقَنَا وَخَلَقَ لَنَا كُلَّ مَا في هَذِهِ الأَرضِ ، وَسَخَّرَ لَنَا مِنَ الآيَاتِ وَالمَخلُوقَاتِ مَا نَستَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ ، لا لِنَلهُوَ بِهِ وَيَشغَلَنَا عَنهُ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ . اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ فِي البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُم مِن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَحَقِّقُوا لَهُ العُبُودِيَّةَ في كُلِّ شَأنِكُم ، وَرَاقِبُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفي كُلَّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ؛ فَإِنَّهُ تَعَالى رَقِيبٌ لِلعِبَادِ مُشَاهِدٌ لأَعمَالِهِم مُطَّلِعٌ عَلَى أَحوَالِهِم ، وَلا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِن أَمرِهِم ، ثم اعلَمُوا أَنَّ أَخطَرَ آفَةٍ تَقلِبُ حَيَاةَ النَّاسِ في العُطَلِ وَالإِجَازَاتِ ، وَتَقعُدُ بِهِم عَن الطَّاعَاتِ وَالمُرُوءَاتِ ، هِيَ آفَةُ السَّهَرِ ، ذَلِكُمُ المَرَضُ الخَطِيرُ وَالوَبَاءُ الوَخِيمُ ، الَّذِي هُوَ في حَقِيقَتِهِ إِجرَامٌ مِنَ الإِنسَانِ في حَقِّ نَفسِهِ ، وَحَربٌ مِنهُ عَلَى جَسَدِهِ وَعَقَلِهِ وَفِكرِهِ ، وَإِفسَادٌ لِعَلاقَتِهِ بِرَبِّهِ وَبِمُجتَمَعِهِ . وَلَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ وَوَازَنَ بَينَ النَّاجِحِينَ في حَيَاتِهِم وَالمُخفِقِينَ ، وَالرَّابِحِينَ مِنهُم وَالخَاسِرِينَ ، لَوَجَدَ أَنَّ أَهلَ السَّهرِ قَلَّ أَن يُفلِحُوا في دِينٍ أو يَنَالُوا رِبحًا في دُنيَا ، فَهُم يَنَامُونَ غَالِبًا قُبَيلَ الفَجرِ ، وَلا يَصحَونَ إِلاَّ بَعدَ العِشَاءِ ، فَيَترُكُونَ بِذَلِكَ الصَّلَوَاتِ أَو يُخرِجُونَهَا عَن أَوقَاتِهَا ، وَهَذَا هُوَ أَصلُ الخُسرَانِ وَأَسَاسُهُ وَأَصلُهُ ، ثُمَّ إِنَّكَ لا تَرَى لأَحَدِهِم نَشَاطًا في طَلَبِ رِزقٍ وَلا سَعيًا لِتَحصِيلِ عِزٍّ وَلا نَيلِ فَضلٍ ، وَلا حُضُورًا في مَجَالِسِ عِلمٍ وَلا مُجَالَسَةً لأَهلِ الخِبرَةِ ، بَل حَتَّى مَعَ أَهلِهِم وَوَالِدِيهِم وَكِبَارِ السِّنِّ مِن أَقَارِبِهِم ، لا تَرَى لَهُم مَعَهُم حُضُورًا وَلا بِهِمُ اهتِمَامًا ، وَيَظَلُّ أَحَدُهُم عَلَى هَذَا النَّمَطِ المُخَالِفِ لِلفِطَرَةِ حَتَّى يَختَلَّ جِسمُهُ وَيَفسُدَ جَسَدُهُ ، وَتَنتَكِسَ صِحَّتُهُ وَتَذهَبَ عَافِيَتُهُ ، وَيَخسَرَ دِينَهُ وَدُنيَاهُ وَيُضِيعَ حَاضِرَهُ وَمُستَقبَلَهُ ، أَلا فَلنَنتَبِهْ لأَنفُسِنَا وَمَن تَحتَ أَيدِينَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَإِنَّ قَلبَ الفِطرَةِ هُوَ أَسَاسُ انقِلابِ الحَيَاةِ رَأسًا عَلَى عَقِبٍ ، وَاللهُ قَد جَعَلَ اللَّيلَ لِلسَّكَنِ وَالرَّاحَةِ ، وَالنَّهَارِ لِلنَّشَاطِ وَطَلَبِ المَعِيشَةِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيل لِتَسكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسمَعُونَ " وَقَالَ تَعَالى : " قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ . قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبصِرُونَ . وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ . ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِبَاسًا وَالنَّومَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " قُلْ أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ . قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبصِرُونَ . وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ " وَقَالَ تَعَالى : " وَجَعَلنَا نَومَكُم سُبَاتًا . وَجَعَلنَا اللَّيلَ لِبَاسًا . وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا "
المرفقات
1752755866_السهر وإضعاف العبودية لله.docx
1752755867_السهر وإضعاف العبودية لله.pdf