خطبة : ( عام تصرم وعام يتقدم )
عبدالله البصري
عام تصرم وعام يتقدم 2/ 1/ 1447
الخطبة الأولى :
أمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، أَمسِ بَدَأَ عَامٌ هِجِرِيٌّ جَدِيدٌ ، وَاليَومَ هُوَ يَومُنَا الثَّاني مِن عَامِنَا ، أَمَّا عَامُنَا المَاضي فَقَد رَحَلَ بِمَا فِيهِ مِن خَيرٍ وشَرٍّ ، وَذَهَبَت أَفرَاحُهُ وَتَوَلَّت أَتراحُهُ ، وَانقَضَت آمَالُهُ وَارتَحَلَت آلامُهُ ، وَلم يَبقَ مِنهُ إِلاَّ مَا أَودَعَنَاهُ مِن أَعمَالٍ ، وَسَيَرَى كُلُّ عَامِلٍ مِنَّا عَمَلَهُ " يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَرًا وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا " وَإِنَّ الأَعوَامَ كَمَا مَرَّ بِكُم وَعَلِمتُم ، قَصِيرَةٌ وَإِن هِيَ طَالَت ، سَرِيعَةٌ وَإِن تَبَاطَأَت ، مَا يَكَادُ يَمضِي مِنَ العَامِ شَهرٌ إِلاَّ وَانهَدَمَ وَتَصَرَّمَ ، أَيَّامٌ تَمضِي وَلَيَالٍ تَنقَضِي ، وَأَسَابِيعُ مُتَوَالِيَةٌ وَأَشهُرٌ مُتَتَابِعَةٌ ، وَمَا نَعِيشُهُ اليَومَ وَاقِعًا قَد يَكُونُ لَدَى بَعضِنَا حُلوًا عَذبًا وَلَدَى آخَرِينَ مُرًّا عَلقَمًا ، سَيُصبِحُ بَعدَ حِينٍ ذِكرَيَاتٍ وَأَحلامًا ، وَكَمَا نَتَحَدَّثُ اليَومَ عَن أُنَاسٍ عَايَشنَاهُم وَأَكَلنَا مَعَهُم وَشَرِبنَا ، ثُمَّ مَاتُوا وَلم يَبقَ إِلاَّ ذِكرُهُم ، فَسَيَتَحَدَّثُ أُنَاسٌ عَنَّا غَدًا ، وَسَيَذكُرُونَ مَا جَرَى لَهُم مَعَنَا . وَإِنَّ تَنَاقُصَ أَعدَادِ الَّذِينَ نَعرِفُهُم مِن أَقرَانِنَا شَهرًا بَعدَ شَهرٍ وَعَامًا بَعدَ عَامٍ ، لَهُوَ مُنَبِّهٌ لَنَا أَنَّ الدُّنيَا لَيسَت بِدَارِ قَرَارٍ ، وَأَنَّهُ لا مَنجَى لَنَا مِنَ المَوتِ وَلا فِرَارَ ، وَأَنَّنَا في هَذِهِ الدُّنيَا مُسَافِرُونَ ، في ظِلِّ شَجَرَةٍ قَائِلُونَ ، وَعَنهَا عَمَّا قَرِيبٍ رَاحِلُونَ ، أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ في مُرُورِ اللَّيَالي وَالأَيَّامِ ، وَسُرعَةِ انقِضَاءِ الشُّهُورِ وَالأَعوَامِ ، لَعِبَرًا لِمَن أَرَادَ أَن يَعتَبِرَ وَيَتَذَكَّرَ " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلفَةً لِمَن أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَو أَرَادَ شُكُورًا " وَفي البُخَارِيِّ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِمَنكِبِي فَقَالَ : " كُنْ في الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عَابِرُ سَبِيلٍ " وَكَانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ : إِذَا أَمسَيتَ فَلا تَنتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصبَحتَ فَلا تَنتَظِرِ المَسَاءَ وَخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِن حَيَاتِكَ لِمَوتِكَ . نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ إِنَّ أَيَّامَ الإِنسَانِ كُلَّمَا زَادَت فَإِنَّ ذَلِكَ نَقصٌ في عُمُرِهِ ، وَكُلَّمَا طَالَت أَعوَامُهُ فَقَد قَرُبَ أَجَلُهُ ، وَكُلَّمَا ذَهَبَ أَقرَانُهُ وَفَنِيَ جِيلُهُ فَقَد أَزِفَ رَحِيلُهُ ، والعُمرُ أَيَّامٌ وَلَيَالٍ مَجمُوعَةٌ ، في رَصِيدٍ مَحدُودٍ لا يَلبَثُ أَن يَنتَهِيَ ، وَمُهلَةٍ مَكتُوبَةٍ لا بُدَّ أَن تَنقَضِيَ ، ثُمَّ يُغَادِرُ أَحَدُنَا هَذِهِ الدُّنيَا وَحِيدًا فَرِيدًا ، فَالعَاقِلُ مَن وَعَظَتهُ الأَيَّامُ ، وَعَلَّمَتهُ الدُّهُورُ وَالأَعوَامُ ، وَاستَفَادَ مِن أَمسِهِ لِيَومِهِ ، وَمِن يَومِهِ لِغَدِهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ ، وَحَاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُحَاسَبُوا ، وَافتَتِحُوا عَامَكُمُ الجَدِيدَ بِتَجدِيدِ التَّوبَةِ وَالإِقبَالِ عَلَى الطَّاعَةِ بِأَنوَاعِهَا ، اِزدَادُوا مِنَ الخَيرِ فِيمَا بَينَكُم وَبَينَ رَبِّكُم ، وَرُدُّوا الحُقُوقِ إِلى أَهلِهَا فِيمَا بَينَكُم وَبَينَ مَن حَولَكُم ، وَكُونُوا عَلَى استِعدَادٍ لِلِقَاءِ اللهِ في كُلِّ حِينٍ ، فَإِنَّ الرَّحِيلَ حَقٌّ لا شَكَّ فِيهِ وَلا رَيبَ : " وَمَا تَدرِي نَفسٌ مَاذَا تَكسِبُ غَدًا وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " قَصِّرُوا الأَمَلَ ، وَأَصلِحُوا العَمَلَ ، وَحَاذِرُوا بَغتَةَ الأَجَلِ ، وَاعمُرُوا الأَوقَاتَ بِالصَّالِحَاتِ ، فَإِنَّهَا نِعمَةٌ مِنَ اللهِ وَأَيُّ نِعمَةٍ ، وَفَضلٌ مِنهُ تَعَالى وَأَيُّ فَضلٍ ، أَن يَمُدَّ اللهُ لأَحَدِنَا في عُمُرِهِ وَيَحسُنَ مَعَ هَذَا عَمَلُهُ ، وَأَمَّا مَن طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ ، فَذَلِكُم شَرُّ النَّاسِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبرَى . يَومَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى . وَبُرِّزَتِ الجحِيمُ لِمَن يَرَى . فَأَمَّا مَن طَغَى . وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا . فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى . وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى . فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى . يَسأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرسَاهَا . فِيمَ أَنتَ مِن ذِكرَاهَا . إِلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخشَاهَا . كَأَنَّهُم يَومَ يَرَونَهَا لم يَلبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَو ضُحَاهَا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بُعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في بِدَايَةِ كُلِّ عَامٍ هِجرِيٍّ جَدِيدٍ ، يَتَذَكَّرُ المُسلِمُ يَومًا عَظِيمًا وَصَلَ فِيهِ النَّبيُّ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلى أَرضِ طَيبَةَ مُهَاجِرًا ، لِيَبدَأَ بِذَلِكَ اليَومِ تَأرِيخٌ عَرِيقٌ ، هُوَ لِلمُسلِمِينَ عَلامَةٌ فَارِقَةٌ ، وَشَامَةٌ في جَبِينِ الزَّمَانِ وَاضِحَةٌ . وَبَينَمَا تُؤَرِّخُ الأُمَمُ لأَنفُسِهَا بِأَحدَاثٍ مَرَّت بِهَا ، مِن مِيلادِ عَظِيمٍ أَو وَفَاةِ زَعِيمٍ ، أَو تَوَلِّي مَلِكٍ أَوِ انتِصَارٍ عَلَى عَدُوٍّ ، فَإِنَّ التَّأرِيخَ الهِجرِيَّ هُوَ تَأرِيخُ أُمَّةِ الإِسلامِ ، وَهُوَ حُكمُ اللهِ الكَونيُّ مُنذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ ، إِذْ جَعَلَ عِدَّةَ الشُّهُورِ اثنَي عَشَرَ شَهرًا ، قَالَ جَلَّ وَعَلا : " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثنَا عَشَرَ شَهرًا في كِتَابِ اللهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ " وَقَالَ جَلَّ وَعَلا : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُونَ " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ " وَقَد عَمِلَتِ الأُمَّةُ بِالتَّأرِيخِ الهِجرِيِّ مُنذُ أَن جَمَعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في خِلافَتِهِ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم ، وَاستَشَارَهُم في تَأرِيخٍ يَعرِفُونَ بِهِ عِبَادَاتِهِم وَيَضبِطُونَ مُعَامَلاتِهِم ، فَاتَّفَقُوا على التَّأرِيخِ بالِهجرَةِ لِظُهُورِهِ وَاشتِهَارِهِ ، وَلأنَّ اللهَ تعالى قَد فَرَّقَ بها بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَبِهَا انتَقَلِ الإِسلامُ مِن عَهدِ الضَّعفِ وَالإِسرَارِ إِلى عَهدِ القُوَّةِ ، وَلِهَذَا كَانَ الوَاجِبُ عَلَى المُسلِمِينَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، أَن يَعتَبِرُوا بِالأَهِلَّةِ وَالأَشهُرِ الهِجرِيَّةِ القَمَرِيَّةِ في عِبَادَاتِهِم وَزَكَوَاتِهِم ، وَفي بُيُوعِهِم وَدُيُونِهِم وَسَائِرِ أَحكَامِهِم وَمُعَامَلاتِهِم ، وَأَلاَّ يُقَدِّمُوا عَلَى تَأرِيخِهِم أَيَّ تَأرِيخٍ آخَرَ مَهمَا حَاوَلَ أَعدَاؤُهُم أَن يصرِفُوهُم ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ ابتِدَاعٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ ، وَقَد قَالَ نَبِيُّنَا عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " وَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
المرفقات
1750935803_عام تصرم وعام يتقدم.docx
1750935804_عام تصرم وعام يتقدم.pdf