خطبة وَهْمُ السَّعادةِ بين شَهْوَةِ البَدَنِ ووَحْشَةِ الرُّوح
حسين بن حمزة حسين
1447/07/01 - 2025/12/21 16:48PM
إِخْوَةَ الإِيمَانِ: السَّعَادَةُ ضَالَّةُ كُلِّ إِنْسَانٍ؛ يَطْلُبُهَا بِفِطْرَتِهِ، وَيَسْعَى إِلَيْهَا بِجُهْدِهِ، فَمَنْ أَحْسَنَ فَهْمَ حَقِيقَتِهَا طَالَتْ سَعَادَتُهُ، وَمَنْ أَخْطَأَ طَرِيقَهَا طَالَ شَقَاؤُهُ، وَعَلَى قَدْرِ فَهْمِ السَّعَادَةِ تَكُونُ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ.
عِبَادَ اللَّهِ: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَلَا تَسْتَقِيمُ سَعَادَتُهُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الِاثْنَيْنِ مَعًا، وَلَنْ تَتَحَقَّقَ سَعَادَتُهُ إِذَا أُشْبِعَ أَحَدُهُمَا وَأُهْمِلَ الآخَرُ، فَغِذَاءُ الجَسَدِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَ اللَّهُ، بِلَا إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ﴾، وَأَمَّا غِذَاءُ الرُّوحِ فَفِي الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَالإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، فَالجَسَدُ إِذَا أُهْمِلَ غِذَاؤُهُ ضَعُفَ، وَإِذَا تُرِكَ لِلشَّهَوَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مَرِضَ وَفَسَدَ، وَالرُّوحُ إِذَا غُذِّيَتْ بِالْغَفْلَةِ ذَبُلَتْ، وَإِذَا لُوِّثَتْ بِالْمَعْصِيَةِ مَرِضَتْ، وَإِذَا حُرِمَتْ مِنَ الذِّكْرِ قَسَتْ وَضَاقَتْ، فَمَنْ اعْتَنَى بِجَسَدِهِ وَأَهْمَلَ رُوحَهُ عَاشَ قَوِيَّ البَدَنِ خَالِيًا مِنْ سَعَادَةِ القَلْبِ، مَحْرُومًا مِنْ رَاحَةِ البَالِ، وَمَنْ اعْتَنَى بِرُوحِهِ وَأَهْمَلَ جَسَدَهُ عَجَزَ عَنِ القِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَأَثْقَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَلَّ وَتَعِبَ، وَرُبَّمَا أَضَاعَ حُقُوقًا كَثِيرَةً، وَمِنْ هُنَا كَانَ الخَلَلُ العَظِيمُ فِي زَمَانِنَا: أَنْ تُطْلَبَ السَّعَادَةُ لِلْجَسَدِ وَحْدَهُ رَاحَةً وَمَتْعَةً وَلَذَّةً، وَتُتْرَكَ الرُّوحُ جَائِعَةً عَطْشَى، لَا صَلَاةً تُحْيِيهَا، وَلَا ذِكْرًا يُسَكِّنُهَا، وَلَا صِلَةً بِاللَّهِ تُطْمَئِنُهَا، فَإِذَا جَاعَتِ الرُّوحُ ضَاقَ الصَّدْرُ، وَتَعَذَّبَتِ النَّفْسُ، وَلَوْ تَرَفَّهَ الجَسَدُ، قَالَ ﷺ: «وَإِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، وَفِي حَدِيثِ حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. صحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
إخوة الإيمان: جعل اللهُ هذه الدنيا دارَ نقْصٍ لا كمال، دارَ كدرٍ لا صفاء، وأنَّ تمامَ السعادةِ المرجوّةَ مؤجَّل، وأنَّ الدنيا لم تُخلَق لتكون دارَ كمالٍ، فمن طلب منها ما لا تملك خاب وأشقى نفْسه وروحه، ومن عرف حقيقتها اطمأنَّ قلبه وسكن، والسعادةُ الممكنة فيها هي سعادةُ الرضا، وطمأنينةُ القلب، وراحةُ البال، والقناعة بما وهب الله، فمن طلب منها كمال السعادة خاب وشقي، فكم نرى في زماننا من أناسٍ يبذلون الأموال الطائلة لإشباع سعادة أبدانهم، يعيشون بزعمهم حياةً فارهة، أسفاراً، وفنادق، وصوراً، ولذّات، ومحرّمات بشتى صورها، فإذا بآلامهم تزداد، وشقائهم لا ينقطع، وأبدانهم لا تشبع، قلوبٌ فارغة، ونفوسٌ ضيّقة، وقلقٌ دائم، واكتئابٌ خفيّ، وفراغٌ قاتل، وما ذلك لأنهم لم يجدوا المتعة، بل لأنّهم طلبوا من الدنيا ما لا تملكه، وطلبوا من لذّة الجسد ما لا يقوم مقام غذاءَ الروح، فخابوا وشقوا، ونسوا – أو تناسوا – أن السعادة تكاملٌ بين سعادة البدن وسعادة الروح، فسعادة البدن في الدنيا لحظةٌ زائلة، أمّا طمأنينة الروح وراحة البال وبرد العيش فحالةٌ دائمة، واللحظات تفْنى، وأمّا السعادة المتعلّقة براحة القلب وهناءِ النفس وسكون الخاطر فتدوم، ولن تكون إلا مع الله عز وجل. إخوة الإيمان: سعادةُ الدنيا ليست في وُفْرة العطاء، ولكن في بركة العطاء، ليست في كثرة المتاع، لكن في طمأنينة القلب، ليست في ضحك الشفاه، لكن في راحة القلب، ليست في أن تُعطى كل ما تريد، ولكن في أن ترضى بما أعطاك الله،
فاتقوا الله عباد الله، ولا تنخدعوا بأوهام السعادة الكاذبة، ولا تظنوا أن كل ضاحكٍ سعيد، فكم من وجهٍ باسمٍ وقلبه يتوجّع في خفاء، من عرَف الله سعد وإن قلّ متاعه، ومن جهِل الله شقي وإن ملك الدنيا، سعادة المؤمن في نعمةٍ يُؤدّي شكرها، وفي بلاءٍ يُسلّم فيه ويرضى، وفي ذنبٍ يستغفر الله منه، وفي صلاةٍ يخشع فيها القلب، وذكرٍ تطمئن به النفس، وصدقةٍ تُطفئ الهمّ، ويقينٍ راسخٍ بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى. تلك سعادةٌ عاجلة، وبشرى بسعادةٍ تامّةٍ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ زيـادَةُ المَرء فـي دُنيـاهُ نقصـانُ * * * وربْحُـهُ غَيرَ محض الخَير خُسـرانُ يا عامِـراً لخَـرابِ الدَّهرِ مُجتهِـداً* * * باللهِ هـل لخَـرابِ العمر عُمـرانُ يا خادمَ الجسم كم تشقـى بِخدمته * * * أتَطْلُبُ الرّبْحَ فيمـا فيـه خسران أقْبِل على النّفس واستكمل فضائلها * * * فأنـت بالنفس لا بالجسم إنسـان
الخطبة الثانية:
إخوةَ الإيمان: لَمْ يَخْلُقْنَا اللَّهُ تَعَالَى لِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ تَنْقَضِي، بَلْ لِحَيَاتَيْنِ: حَيَاةٍ فَانِيَةٍ نَعْمَلُ فِيهَا وَنُبْتَلَى، وَسَعَادَتُهَا مُؤَقَّتَةٌ، وَهِيَ الدُّنْيَا، وَحَيَاةٍ بَاقِيَةٍ نُجْزَى فِيهَا، وَهِيَ الآخِرَةُ الَّتِي بَعْدَ الْمَوْتِ، الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ، وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا هُوَ الَّذِي يُحْصَدُ هُنَاكَ، فَسَعَادَةُ الآخِرَةِ أَوْ شَقَاؤُهَا ثَمَرَةُ الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا غَايَتَهُ، أَسْعَدَ جَسَدَهُ سَاعَةً، وَأَشْقَى بَدَنَهُ وَرُوحَهُ عُمُرًا، وَمَنْ عَاشَ لِلَّهِ فِي دُنْيَاهُ، وَامْتَثَلَ طَاعَتَهُ فِي غِذَاءِ بَدَنِهِ وَرُوحِهِ، أَسْعَدَ بَدَنَهُ وَرُوحَهُ مَعًا، وَذَاقَ السَّعَادَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾، فَوَازِنُوا بَيْنَ غِذَاءِ الْجَسَدِ وَغِذَاءِ الرُّوحِ، وَلَا تُهْمِلُوا أَحَدَهُمَا عَلَى حِسَابِ الآخَرِ، وَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، إِيَّاكُمْ وَأَوْهَامَ سَعَادَةٍ تُسْكِتُ الأَلَمَ لَحْظَةً، ثُمَّ تُضَاعِفُهُ، وَتُرْضِي الْجَسَدَ حِينًا، ثُمَّ تُشْقِي الْقَلْبَ عُمُرًا، أَطْعِمُوا أَرْوَاحَكُمْ كَمَا تُطْعِمُونَ أَجْسَادَكُمْ، وَاجْعَلُوا دُنْيَاكُمْ جِسْرًا إِلَى آخِرَتِكُمْ، وَعَوْنًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوهَا أَكْبَرَ هَمِّكُمْ، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِكُمْ، وَلَا غَايَةَ سَعْيِكُمْ، قال تعالى مخبراً عن مؤمن قوم فرعون ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) ) ثم صلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على نبيِّكم محمد ﷺ.أسفل النموذج