سراج الوجوه ( الابتسامة )

الشيخ محمد الوجيه
1447/04/24 - 2025/10/16 13:22PM

‏الخُطبةُ الأولى

 

‏إن الحمد لله، نحمده حمداً لا ينقطع أبداً، ونستعينه استعانة من لا يجد له ملاذاً ولا مُعتَمَداً، ونستغفره استغفار من أقر بذنبه وأناب ورجع إليه واهتدى، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

‏وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزه عن الأشباه والأنداد، وتبارك رب العالمين وتقدس، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله ربه بالهُدى ودين الحق، فكان خير الخلائق خُلقاً، وأكملهم بِشراً، وأطلقهم وجهاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً..

‏أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، حق التقوى، فبها تحيا القلوب وتُستنار الدروب:

‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

‏عباد الله،

‏إن سراج الوجوه ليس في الجوارح الخاشعة فقط، بل في القلب المشرق الذي تُترجَم طهارته على صفحات الوجه. فما أجمل أن ترى على مُحيا المسلم سيماء الرضا والراحة، لا تقطيب الجبين ولا عبوس القسوة.

‏إنها الابتسامة، تلك اللغة الصامتة، التي تُفتِّحُ القلوب المُغلقة، وتُذيبُ جبال الجفاء، وتصنع المعروف بأيسر الكلمات وأجملها. إنها سفير المودة، وعربون الصفاء، ومفتاح الألفة في دنيا طغت فيها المادية والجفوة.

‏ولقد كان نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الباسمين والضاحكين تبسماً، حتى صارت الابتسامة في حقه

وصفاً ملازماً لا يكاد يُفارق طلعتَه الشريفة كالسراج الوهاج والقمر المنير.

‏ اسمعوا إلى شهادة الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وكيف وصف دوام هذا الخُلق النبوي فيه، إذ يقول: «ما رآنِي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أسْلَمْتُ إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وجْهِي». رواه البخاري ومسلم.

‏ ولقد جمع ذلك الوصف الجامع عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه حين قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الترمذي. هذا دليلٌ قاطعٌ على أن الابتسامة ليست ظرفية عابرة، بل هي سلوك إيماني عميق، ينبع من طمأنينة القلب وحسن الظن بالخالق.‏

‏ولأن الإسلام دين السعادة، فقد رفع قيمة هذا الخُلق الرفيع إلى درجة العبادة التي يُؤجر عليها المسلم، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ لكَ صَدَقَةٌ». رواه الترمذي وحسنه.

‏إنها صدقة لا تُنقص من مال ولا تُجهد بدناً، بل تزيد المحبة وتُقوِّي الأواصر. ثم أكمل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بقوله: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ». رواه مسلم.

‏فالوجه الطلق والبشوش، هو أيسر أشكال البر والخير، وأدنى درجاته.

‏وقد جسد الصحابة هذا الخُلق في حياتهم رغم ما كان يغشاهم من خشوع الإيمان وشدة العبادة، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين سُئل: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ فقال: «نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل».

‏فالبشاشة ليست نقيضاً للخشوع، بل هي ترجمة لرضا نفس مطمئنة.

‏ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم أنسهم في مجلسهم؛ يقول جابر بن سمرة رضي الله عنه: «...وكانوا يتَحَدَّثون فيأخُذون في أمرِ الجاهليَّةِ فيَضحَكون ويَتَبَسَّمُ صلى الله عليه وسلم». رواه مسلم. فكانت ابتسامته ترويحاً لنفوسهم وتأليفاً لها.

‏عباد الله، إن الابتسامة هي البشارة الأولى لنا كمسلمين، لأنها تُذكِّرنا بصفة الكمال لله سبحانه وتعالى؛ فإذا كانت ابتسامة المخلوق صدقة، فكيف بضحك الخالق جل جلاله؟

‏ لقد جاء في سنن ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقال:

‏"ضحك ربنا من قُنُوط عباده، وقُرب غِيَرِه".

‏قال الصحابي : يا رسول الله، أَوَ يضحك الرب؟

‏ قال ﷺ: "نعم".

‏قال الصحابي: لن نعدم من رَبٍّ يضحك خيراً..

‏وفي هذا أعظم التفاؤل واليقين بالرحمة والمغفرة.

‏أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

‏الخُطبةُ الثانية

‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‏عباد الله،

‏إن الابتسامة ترجمة لحال القلب، وهي ميزان التواضع واللين، فمن لانت سريرته، لانت عشيرته، وتجسدت رحمته في بشاشة وجهه.

‏ ولقد أدرك سلفنا الصالح أن البشاشة تسبق العطاء، وأنها جزء من إكرام الضيف وقضاء الحاجة، ولهذا سُئل الإمام الأوزاعي رحمه الله: ما كرامة الضيف؟ قال: «طلاقة الوجه، وطيب الحديث».

‏بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل البشاشة حتى في مواقف التخفيف عن المخطئ، كما في قصة الرجل الذي هلك لأنه جامع في نهار رمضان؛ فبعد أن أهلكه الحياء والحرج، استقبله النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال لطيف، ثم بابتسامة عند حل المشكلة، بل ضحك حتى بدت نواجذه، فكانت الابتسامة احتواء ورحمة، أزالت عنه الخوف والحرج الذي كاد أن يُهلِكُه.

‏والابتسامة أيها المؤمنون، هي التي تجلب المحبة وتزرع الود، وهي خير من عطاء يُقدَّم بوجه عابس وقلب منقبض، فهذا عروة بن الزبير رحمه الله يقول: «ليكن وجهك بَسْطاً، وكلمتك طيبة، تكن أحب إلى الناس من الذي يعطيهم العطاء».

‏فلنجعل البشاشة ديدننا، نتأسى بنبينا، ونبني بها جسور الألفة والمحبة في بيوتنا ومجتمعاتنا، ولنحذر من التجهم والعبوس، فإنهما يجلبان النفور.

‏ ولنتبسم تفاؤلاً بالفرج، وأملاً في حسن الجزاء، لتكون وجوهنا من الوجوه المشرقة التي وعدها الله بالنعيم يوم لا ينفع مال ولا بنون: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38-39].

‏ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكة قدسه فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)...

‏اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

‏اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا ممن يتأسون بنبيك في حُسن خُلُقه ولين جانبه وبشاشته.

‏اللهم اجعلنا مباركين أينما كنا، وهداة مهديين، غير ضالين ولا مُضلين. اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

‏ اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية. اللهم ارزقنا قلوباً خاشعة، وألسنة ذاكرة، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ويقيناً صادقاً، واجعلنا من التوابين الأوابين يا أرحم الراحمين.

‏اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم ارحم ضعفنا وقلة حيلتنا، ويسّر أمورنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا أكرم الأكرمين.

‏اللهم يا فارج الهم وكاشف الغم ومجيب دعوة المضطرين، فرج همومنا، واكشف غمومنا، واقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان.

‏اللهم اكتب لنا في هذه الساعة المباركة سعادة في الدنيا والآخرة، وعافية في البدن، وتوبة نصوحاً قبل الممات، وارزقنا شفاعة نبينا المصطفى يوم نلقاك. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من أهل البشاشة في الدنيا والبشارة في الآخرة.

‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

‏عباد الله، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1760616991_سراج الوجوه ( الابتسامة).pdf

1760616996_سراج الوجوه ( الابتسامة).docx

المشاهدات 377 | التعليقات 0