صافرات الإنذار
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ فَاطرِ الأرضِ والسَّمواتِ، عَالمِ الأسرارِ والخَفيَّاتِ، الُمطَّلعِ على الضَّمائرِ والنيَّاتِ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمَاً، ووَسِعَ كُلَّ شيءٍ رَحمةً وحِلمَاً، وقَهرَ كلَّ مخلوقٍ عزَّةً وحُكمَاً، يَعلمُ ما بينَ أيديهم وما خَلفَهم ولا يُحيطونَ به عِلمَاً، أتقَنَ ما خَلقَهُ وأَحكَمَهُ، وخَلَقَ الإنسانَ وعَلَّمَهُ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادةَ مَن عَرَفَ الحَقَّ وَالتَزَمَهُ، وَأَشهَدُ أن مُحَمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ أَفضَلَ مَن صَدَعَ بِالحَقِّ وَأَسمَعَهُ، اللهمَّ صَلِّ عَلَى عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَسَائرِ مَن نَصَرَهُ وَكَرَّمَهُ وَسَلَمْ تَسلِيمَاً كَثِيراً .. أَمَّا بَعدُ:
أُطلِقَتْ فِي الشَّوارعِ صَافِراتُ الإنذَارِ التَّجرِيبيَّةُ، وأُرسِلَتْ عَلى أجهِزَةِ الجَوَّالِ التَّنبِيهَاتُ التَّحذِيريَّةُ، لأَجلِ أَن يَعلَمَ النَّاسُ الطَّريقَةَ التي تُحَذِّرُ بِهَا البِلادُ مُوَاطِنِيهَا مِنَ الكَوَارثِ الطَبِيعيَّةِ، أو المَخَاطِرِ الصِّنَاعيَّةِ، أو الغَاراتِ العَسكِريَّةِ، ثُمَّ تَقَعُ المَسئولِيَّةُ عَلى كُلِّ فَردٍ فِي اتِّبَاعِ التَعلِيمَاتِ، التي ينجُو بِهَا مِنَ الخَطَرِ ويَتَجَاوزُ الأَزَمَاتِ، وبَعدَ ذلَكَ يَكونُ اللَّومُ كُلُّ اللَّومِ عَلى مَن خَالَفَ التَّوجِيهَاتِ، وَعَرَّضَ نَفسَهُ لِلأَخطَارِ والدَّمَارِ والمُهلِكَاتِ.
وَهَكَذا كُلُّ أَمرٍ كَبِيرٍ، يَحتَاجُ إلى تَنبِيهٍ وتَحذِيرٍ، فتَعَالُوا لِنَنظُرَ فِي أَعظَمِ وَسَائلِ الإنذارِ، التي أَرسَلَهَا اللهُ لِلتَّحذِيرِ مِنَ خَطَرِ النَّارِ، يَقُولُ تَعَالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)، فَمَا هُوَ ذَلِكَ النَّذِيرُ، الذِي بَعثَهُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، فَكَانَ قَائدَاً لِلخَيرِ وَهُدىً وَنُورَاً لِلأَبرَارِ، وَكَانَ فِتنَةً وَعَمىً وَخَسَارَةً لِلفُجَّارِ؟، الحَقِيقَةٌ أَنَّهَا نُذُرٌ كَثِيرةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وَاسأَلُوا عَنهَا أَصحَابَ القُلُوبِ الخَاشِعَةِ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، مِنهُ ذَلِكَ الرَّسُولُ الكَريمُ، الذي بَعثَهُ العَزِيزُ الرَّحيمُ، (شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، أَصدَقُ النَّاسِ لِسَانَاً، وَأَعظَمُهُم أَمَانَةً، وَأَكمَلُهُم أَخلاقَاً، رآهُ أَعلَمُ اليَهودِ عَبدُاللهِ بنُ سَلامٍ فَمَاذَا قَالَ؟، قَالَ: (فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ).
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ *** لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
مَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلَا شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَهَا مِنْهُ، قَرَأَنَا سِيرَتَه المُبَارَكَةَ فَأَحبَبنَاهُ، وَسَمعنَا كَلامَهُ فَصَدَّقنَاهُ، حَتَى أَصبَحَ أَحبَّ إلينا مِن أَروَاحِنَا التي بَينَ جُنوبِنَا، فَنَقُولُ كَمَا قَالَ الصَّحَابةُ عِندَمَا سَألَهم في حَجَّةِ الوَدَاعِ: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)، قَالُوا: (نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ) .. فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، وَمِنهُ هَذَا القُرآنُ المَجِيدُ الذي بَينَ أَيدينَا، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان عَلَى عَبْده لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)، كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَاتَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ.
هُوَ الكِتَابُ الذِّي مَن قَامَ يَقرؤُهُ *** كَأنَّما خَاطَبَ الرَّحمَنَ بِالكَلِمِ
(يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) مِن أُمُورِ البِّرِ وَالخَيرِ، سَهلٌ وَاضِحٌ وَبُرهَانٌ مُنِيرٌ .. فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، وَمِنهُ تِلَكَ الأَمرَاضُ التي تُصيبُكَ حِيناً بَعدَ حِينٍ، مَوَاعِظُ تَذكِّيريَّةٌ، وَرَسَائلُ تَحذِيرِيَّةٌ، فَهَذَا فَيروسٌ ضَئيلٌ، يَقتَحِمُ تِلكَ الأَجسَامَ القويَّةَ، فيَثقُلُ البَدَنُ عِنِ القِيَامِ، وَاللِّسَانُ عَنِ الكَلامِ، فَلا تَقدِرُ اليّدُّ بَطْشَاً، وَلا تَستَطِيعُ الرِّجلُ مَشيَاً، تَحِسُ مَعهُ بِالفُتُورِ، وَتَعلمُ أَنَّكَ كُنتَ في غُرورٍ.
وَهَذَا عُضوٌ قَد أَدركَهُ الخَلَلُ، أَو هُرمُونٌ قَد أَصَابَهُ العَطَلُ، وإذا الجِسمُ يَرتَعِشُ وَالحَرَارةُ في طُلوعٍ، وإذا الأطباءُ يَتَهَامَسُونَ في خُشُوعٍ، لا عِلاجَاً مَعَكَ يَنفَعُ، وَلا كَلِمَةَ تَفَاؤلٍ تَسمَعُ، حِينَهَا دَارَ في خَيَالِكَ شَريطُ الحَيَاةِ مُتَسَارِعَاً، فَعَلِمتَ أَنَّكَ كُنتَ في أَمِلٍ مُخَادِعَاً، لَقَد كَانَ لَنَا في الأَمرَاضِ عِبرةٌ وَذِكرَى .. فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، وَمِنهُ ذَلِكَ الشَّيبُ الذي اشتَعَلَ بِهِ الرَّأسُ، وَوَهَنُ مِنهُ العَظمُ، وَذَهَبَ مَعَهُ النَّشَاطُ، وَتَتَابَعتْ مَعَهُ الأَسقَامُ، فَأَصبَحَ ثَقِيلاً إذَا قَامَ، وَخَفِيفَاً إذَا نَامَ، يُنَادِي فَلا يُجِيبُ الأَصحَابُ، وَيَلتَفِتُ فَلا يَرَى الأَحبَابَ، حَبِيسُ الذِّكرَيَاتِ، يُعيدُ حِسَابَاتِ مَا فَاتَ، وَليسَ لَهُ رَجَاءٌ إلا رَحمَةَ رَبِّ الأَرضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
مَنْ لمْ يَعِظهُ بَياضُ اَلْشَّعْرِ أدْرَكَهُ *** فِي غِرَّة ٍحَتْفُهُ المَقدُورُ وَالأجَلُ
لَقَد وَعظَنَا الشَّيبُ وَحَذَّرَنَا، وبِدُنُوِّ الأَجَلِ ذكَّرَنَا، وَمِنْ مَعصِيةِ اللهِ أَنذَرَنَا .. فَنِعمَ النَّذيرُ.
أَقُولُ قَولي هَذَا، وَأَستَغفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُم وَلِسَائرِ المسلِمِينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الوَليِّ الحَمِيدِ، الفَعَّالِ لِمَا يُريدُ، أَحمَدُهُ سُبحَانَهُ، خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ العَبِيدُ، وَأَشهَدُ أَن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا نَدِيدَ، وَأَشهَدُ أَنَّ نَبيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ صَاحِبَ القَولِ السَّدِيدِ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلى عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِه وَأَصحَابِهِ وَمَن تَبِعَهُم بِإحسَانٍ إلى يَومِ الوَعِيدِ .. أَمَّا بَعدُ:
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، ذَلِكَ الزَّائرُ الذي يَأَتي دُونَ استِئذَانٍ، وَلا يَطرِقُ بَابَاً وَلا يَتَسلَّقُ الجِدرَانَ، لَيسَ لَهُ إشَارَاتٌ وَلا عَلامَاتٌ، وَلا يَمنَعُ مِنهُ قُصُورٌ وَلا حِرَاسَاتٌ، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، إذَا انتَهَى مِن مُهمَّتِهِ وَغَادَرَ المَكَانَ، تَرَكَ خَلفَهُ الهُمُومَ وَالأَحزَانَ، كَمْ تَرَكَ مِن أَرمَلةٍ وَيَتِيمٍ، وَكَمْ قَطَعَ مِن عَيشٍ كَريمٍ، لَقد كَانَ نَذِيراً يَوميَّاً، تَنقِلُ وَسَائلُ الإعلامِ أَخبَارَ القَتلَى، وَتَأَتي الرَّسَائلُ بِنعِي المَوتَى، يَخطِفُ الصَّغيرَ وَالكَبِيرَ، وَيَأخُذُ الغنيَّ والفقيرَ، كَمْ عَلَى جَنَازةٍ قَد صَلَّيتَ؟، وَكَم مِن مَيِّتٍ قَد وَاريتَ؟، وَكَم مِن مَفقُودٍ قَد عَزَّيتَ؟، لَقَد كَانَ المَوتُ نَذِيرَاً .. فنِعمَ النَّذيرُ.
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها *** وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها *** هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
أيها الأحبابُ .. هَل يَكفِي كُلُّ هَذَا فِي العِظَةِ والنَّصِيحَةِ والاعتِبَارِ، أَم نَحتَاجُ إلى رَسائلَ تَنبِيهيَّةٍ وصَافِراتِ إنذارٍ؟، (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
اللهمَّ أَيقِظْ قُلُوبَنا مِنَ الغَفَلاتِ، وَطَهِّرْ جَوَارِحَنَا مِنَ المَعَاصِيِ وَالسيَّئاتِ، وَنَقِّ سَرَائرَنَا مِنَ الشُّرورِ وَالبَليَّاتِ، اللهمَّ بَاعِدْ بَينَنَا وَبَينَ ذُنُوبِنَا كَمَا بَاعَدتَ بَينَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ، وَنَقِّنَا مِن خَطَايَانَا كَمَا يُنقَّى الثَّوبُ الأَبيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَاغسِلنَا مِن خَطَايَانَا بالمَاءِ والثَّلجِ والبَردِ، اللهمَّ اختِمْ بِالصَّالحَاتِ أَعمَالَنَا وَثبتْنَا عَلى الصِرَاطِ المُستَقِيمِ بِالقَولِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ، اللهمَّ اجعلْنَا مِنَ المَتَقِينَ الذَّاكرينَ الَّذينَ إذا أَسَاءوا استَغفَروا، وَإذا أَحسنَوا استَبشَروا، اللهمَّ انصُرْ إخوَانَنا المُجَاهِدِينَ في سَبيلِكَ في كُلِّ مَكَانٍ، الذين يُريدُونَ أَن تَكُونَ كَلِمَتُكَ هِيَ العُليَا، اللهمَّ ثَبتْهُم وَسَدِّدْهُم، وَفَرِّجْ همَّهُم وَنفِّسْ كَربَهُم وَارفَعْ دَرَجَاتِهم، رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَتُخْلِفُ الْمِيعَادِ.
المرفقات
1762336685_صافرات الإنذار.docx
1762336693_صافرات الإنذار.pdf