ظَاهِرَةُ غَلاءِ الْعَقَارَاتِ، وَارْتِفَاع الإِيجَارَات .
أ.د عبدالله الطيار
1447/04/19 - 2025/10/11 09:04AM
الْحَمْدُ للهِ الواحدِ الدَّيَّانِ، أَمَرَ بالعدلِ والسماحةِ والإحسانِ، وحَرَّمَ الظُّلْمَ والْجُورَ والطُّغْيَانَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ أَحَلَّ لِعِبَادِهِ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِم الْخَبَائِثَ وَالمُنْكَرَاتِ وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبه إلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: فمن اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، ومَن آَوَى إليهِ آوَاهُ، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق:[4].
أيُّهَا المؤمنونَ: جَاءَت الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّة بِتَشْرِيعِ المُعَامَلاتِ المَالِيَّةِ، تَحْقِيقًا لمصلحةِ الْعِبَادِ مِنَ الطََّعَامِ والشَّرابِ واللِّبَاسِ والسَّكَنِ، وأَحْكَمَتْ تِلْكَ المعَامَلاتِ بِأُصُول وَضَوَابِطَ فَرَسَمت الْعَلاقَة بَينَ الْبَائِعِ والمُشْتَرِي، والمؤَجِّرِ والمسْتَأْجِر، والوَكِيلِ والموَكّلِ؛ لِوَأْدِ النِّزَاع، ودَرْءِ الخِلافِ، وَغَلَّفَتْ تِلْكَ المعَامَلاتِ بِالسَّمَاحَةِ واليُسْرِ، والرِّضَا وطِيبِ النَّفْسِ، قَالَ ﷺ: (لا يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مُسلمٍ إلّا بِطِيبِ نفسٍ مِنهُ) أخرجه أبو يعلى (1570) والدارقطني (2886) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7662).
عِبَادَ اللهِ: والسَّمَاحَةُ وَطِيبُ النَّفْس مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَالأُصُولِ الْجَوْهَرِيَّةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) النساء:[29] وهذه الآيَةُ أَصْلٌ في الْمُعَامَلَاتِ، وأَسَاسٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّهَا لَمُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَالسَّكَنُ ضَرُورَةٌ أَسَاسِيَّةٌ لِلإِنْسَانِ، وَضَمَانُ خُصُوصِيَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، فَبِهِ تَسْتَقِرُّ النُّفُوسُ، وَتَطْمَئِنُّ القُلوبُ، وتَرْتَاحُ الأَبْدَانُ، تَحْصُلُ بِهِ السَّكِينَةُ والْهُدُوءُ والْقَرَارُ والاسْتِقْرَارُ، والسَّعَادَةُ وَرَاحَةُ الْبَالِ، يَأْوِي إلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ تَعَبِ النَّهَارِ وَضَجِيجِ الْحَيَاةِ؛ لِيَلُوذَ بِسَكَنٍ يَقِيهِ الْحَرَّ والْبَرْدَ، قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) النحل: [80].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنَ الظَّوَاهِرِ المقِيتَةِ الَّتِي فَشَتْ في المجْتَمَعِ: غَلاءُ الْعَقَارَاتِ، والمُبَالَغَةُ في أَسْعَارِ الإِيجَارَاتِ، واسْتِغْلالَ حَاجَةِ النَّاسِ لِلسَّكَنِ؛ لإِثْقَالِ كَوَاهِلِهِمْ، وَزِيَادَةِ أَعْبَائِهِمْ؛ لِيَتَحَوَّلَ السَّكَنُ مِنْ مَصْدَرٍ لِلرَّاحَةِ والسَّكِينَةِ، إِلى عِبْءٍ يُؤَرِّقُ اسْتِقْرَارَ الأُسَرِ وَيَقْصِمُ ظَهْرَ الْعَوَائِلِ، وَالْعُمَّالِ، وَيَتَحَوَّل السَّكَن مِنْ بَيْتٍ يُؤوِي، إِلَى عِبْءٍ يُبْكِي، وَهَذَا لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الاسْتِغْلالِ، وانْعِدَامِ الرَّحْمَةِ، وَغِيَابِ الأُلْفَةِ، وَتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ، وَغَلَبَةِ حُبِّ المَالِ، والزُّهْدِ فِي الأَجْرِ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَأَقُولُ لأرْبَابِ الْعَقَارَاتِ، وَأَصْحَابِ الشُّقَقِ وَالْعَمَارَاتِ، اعْلَمُوا -رَحِمَكُم اللهُ- أنَّكُمْ مُسْتَخْلَفُونَ فِيمَا بينَ أَيْدِيكُمْ مِنَ النِّعَمِ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا خَصَّكُمْ بِهِ مِنَ التَّوْسِعَةِ فِي السَّكَنِ، وَمَا اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيرِ، واسْتَشْعِرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالرِّفْقِ بِمَنْ حُرِمَهَا، فَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَطْعَمَنا وَسَقانا، وَكَفانا وَآوانا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كافِيَ له وَلا مُؤْوِيَ) أخرجه مسلم (2715) وقُومُوا بِحَقِّ تِلْكَ النِّعَمِ، وأَدُّوا شُكْرَهَا، بِالإِحْسَانِ إِلَى مَنْ لا مَأْوَى لَهُم، والتَّعَاوُنِ مَعَهُم، وَعَدَمِ اسْتِغْلالِ حَاجَتِهم، قَالَ ﷺ: (مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زادٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا زادَ له) أخرجه مسلم (1728).
واعْلَمُوا -أَغْنَاكُمُ اللهُ- أَنَّ الْبَرَكَةَ قَرِينَةُ الرَّحْمَةِ، وَالْغِنَى قَرِينُ الصَّدَقَةِ، والْقَنَاعَةَ سَبِيلُ الْغِنَى، وَالْفَقْرُ قَرِينُ الْبُخْلِ، فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا سَبَبًا لِتَفْرِيقِ الأُسَرِ، وَزِيَادَةِ أَعْبَائِهَا، قَالَ ﷺ: (مَن ضارَّ أضَرَّ اللهُ به، ومَن شاقَّ شاقَّ اللهُ عليه) أخرجه أبو داود (3635) وصححه الألباني. واتَّقُوا اللهَ عزَّ وجلَّ فِيمَنْ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ مِنَ المُسْتَأْجِرِينَ، وَمَنْ وَلّاكُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ ﷺ: (اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم، فاشْقُقْ عليه، وَمَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهِمْ، فارْفُقْ بهِ) أخرجه مسلم (1828).
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنَ السَّمَاحَةِ الرِّفْقُ بِهَؤُلاءِ الأُسَر مَحْدُودِي الدَّخْلِ، قَلِيلِي الْكَسْبِ بِالتَّرَفُّقِ بِهِم، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَظُرُوفِهِمْ، وَاحْتِسَابِ الأَجْرِ في التَّخْفِيفِ عَنْهُم وَإِمْهَالِهِمْ، وَإِنْظَارِهِمْ، والتَّجَاوُزِ عَنْهُم، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ (كانَ تاجِرٌ يُدايِنُ النّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفِتْيانِهِ: تَجاوَزُوا عنْه، لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنّا، فَتَجاوَزَ اللَّهُ عنْه) أخرجه البخاري (2078) ومسلم (1562). وَلا نَغْفَلُ أَنَّ هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَارَاتِ والملاكِ أَهْلُ دِيَانَةٍ، يَخَافُونَ اللهَ عزَّ وجلَّ، ويُرَاعُونَ حَاجَات المسْتَأْجِرِينَ، وَلا يُحَمِّلُونهُم مَا لا يَطِيقُونَ، وَيَقْنَعُونَ بِمَا يَأْخُذُونَ، وقد عايشنا الكثيرين لا يزيدون عليهم الأجرة، بعد تأثيت بيوتهم، واستقرارهم، فجزاهم الله خيرًا، وخلف عليهم الصحة والبركة والرزق.
عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ ظَاهِرَةَ غَلاءِ الإِيجَارَاتِ، نَاقُوسُ خَطَرٍ، وَنَذِيرُ شُؤْمْ، فَإِذَا نَزعَ النَّاسُ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، نَزَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ الرَّحْمَةَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَترَاحَمُوا تُرْحَمُوا وتَعَاوَنُوا تُؤْجَرُوا، قَالَ ﷺ (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحمَْكُم مَنْ فِي السَّمَاءِ) وقال ﷺ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى) أخرجه البخاري (2076). أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) البلد: [17- 18]. بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ للهِ وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أنَّ ظَاهِرَةَ ارْتِفَاعِ أَسْعَارِ الْعَقَارَاتِ والإِيجَارَاتِ الَّتِي تُؤَرِّقُ المُجْتَمَع، وَتَقُضُّ مَضْجَعَهُ، لَمْ تَغِبْ عَنْ أَنْظَارِ وُلاةِ الأَمْرِ الَّذِينَ يَضَعُونَ نَصْبََ أعْيُنِهِم رَاحَةَ الموَاطِنِ والمقِيم، وأَمْنَ المجْتَمَعِ واسْتِقْرَارَه وَإِزَالَةَ كُلّ مَا مِنْ شَأْنِهِ التَّضْيِيقُ على المجْتَمَعِ، أوِ الإِضْرَارُ بِهِ، فقد وجّهَ سُمُو وَلِيّ الْعَهد صاحب السمو الملكي الأمير محمَّدُ بنُ سلمان -حفظهُ اللهُ- بالقضاءِ على تلكَ الظاهرةِ، من خلالِ قراراتٍ صارمةٍ وعادلةٍ تَضْبِطُ السُّوقَ الْعَقَارِيَّ، وتَحْفَظُ اسْتِقْرَارَ المجْتَمَعِ، وتَضْمَنُ حَقَّ الموَاطِنِ والمقِيمِ في الحصولِ على سكنٍ آمنٍ ينَاسِبُ احتِيَاجَاتِهِ ويُلَبِّي مُتَطَلَّبَاتِهِ. وَهَذَا التَّوجِيهُ الْكَرِيمُ مِنْ سُمُو ولِيّ العَهْد-حفظهُ اللهُ وأيَّدَهُ- يَتَضَمَّنُ مَعَانِي سَامِيّةً، وَرَسَائِلَ واضحةً، أهمُّهَا: حِرْصُهُ -حَفِظَهُ اللهُ- على تَذْلِيلِ الْعَقَبَاتِ، وَإِزَالَةِ التَّعَدِّيَّاتِ، والتَّصَدِّي لِجَشَعِ التُّجَّارِ، وأَرْبَاب الْعقَارَاتِ؛ لِضَمَانِ رَاحَةِ واسْتِقْرَارِ الموَاطِنِينَ والمقِيمِينَ، وأنَّ هَذَا أَوَّلُ الأَوْلَوِيّاتِ، ورَأْسُ المهِمَّاتِ. أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَحْفَظَ وُلاةَ أَمْرِنَا، وأنْ يَجْزِيَهُم خَيرَ الْجَزَاءِ، وأنْ يَحْفَظَ بِلادَنَا أَمِنَةً مُسْتَقِرَّةً وَسَائِرَ بِلادِ المسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
أيُّهَا المؤمنونَ: جَاءَت الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّة بِتَشْرِيعِ المُعَامَلاتِ المَالِيَّةِ، تَحْقِيقًا لمصلحةِ الْعِبَادِ مِنَ الطََّعَامِ والشَّرابِ واللِّبَاسِ والسَّكَنِ، وأَحْكَمَتْ تِلْكَ المعَامَلاتِ بِأُصُول وَضَوَابِطَ فَرَسَمت الْعَلاقَة بَينَ الْبَائِعِ والمُشْتَرِي، والمؤَجِّرِ والمسْتَأْجِر، والوَكِيلِ والموَكّلِ؛ لِوَأْدِ النِّزَاع، ودَرْءِ الخِلافِ، وَغَلَّفَتْ تِلْكَ المعَامَلاتِ بِالسَّمَاحَةِ واليُسْرِ، والرِّضَا وطِيبِ النَّفْسِ، قَالَ ﷺ: (لا يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مُسلمٍ إلّا بِطِيبِ نفسٍ مِنهُ) أخرجه أبو يعلى (1570) والدارقطني (2886) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7662).
عِبَادَ اللهِ: والسَّمَاحَةُ وَطِيبُ النَّفْس مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَالأُصُولِ الْجَوْهَرِيَّةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) النساء:[29] وهذه الآيَةُ أَصْلٌ في الْمُعَامَلَاتِ، وأَسَاسٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّهَا لَمُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَالسَّكَنُ ضَرُورَةٌ أَسَاسِيَّةٌ لِلإِنْسَانِ، وَضَمَانُ خُصُوصِيَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، فَبِهِ تَسْتَقِرُّ النُّفُوسُ، وَتَطْمَئِنُّ القُلوبُ، وتَرْتَاحُ الأَبْدَانُ، تَحْصُلُ بِهِ السَّكِينَةُ والْهُدُوءُ والْقَرَارُ والاسْتِقْرَارُ، والسَّعَادَةُ وَرَاحَةُ الْبَالِ، يَأْوِي إلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ تَعَبِ النَّهَارِ وَضَجِيجِ الْحَيَاةِ؛ لِيَلُوذَ بِسَكَنٍ يَقِيهِ الْحَرَّ والْبَرْدَ، قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) النحل: [80].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنَ الظَّوَاهِرِ المقِيتَةِ الَّتِي فَشَتْ في المجْتَمَعِ: غَلاءُ الْعَقَارَاتِ، والمُبَالَغَةُ في أَسْعَارِ الإِيجَارَاتِ، واسْتِغْلالَ حَاجَةِ النَّاسِ لِلسَّكَنِ؛ لإِثْقَالِ كَوَاهِلِهِمْ، وَزِيَادَةِ أَعْبَائِهِمْ؛ لِيَتَحَوَّلَ السَّكَنُ مِنْ مَصْدَرٍ لِلرَّاحَةِ والسَّكِينَةِ، إِلى عِبْءٍ يُؤَرِّقُ اسْتِقْرَارَ الأُسَرِ وَيَقْصِمُ ظَهْرَ الْعَوَائِلِ، وَالْعُمَّالِ، وَيَتَحَوَّل السَّكَن مِنْ بَيْتٍ يُؤوِي، إِلَى عِبْءٍ يُبْكِي، وَهَذَا لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الاسْتِغْلالِ، وانْعِدَامِ الرَّحْمَةِ، وَغِيَابِ الأُلْفَةِ، وَتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ، وَغَلَبَةِ حُبِّ المَالِ، والزُّهْدِ فِي الأَجْرِ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَأَقُولُ لأرْبَابِ الْعَقَارَاتِ، وَأَصْحَابِ الشُّقَقِ وَالْعَمَارَاتِ، اعْلَمُوا -رَحِمَكُم اللهُ- أنَّكُمْ مُسْتَخْلَفُونَ فِيمَا بينَ أَيْدِيكُمْ مِنَ النِّعَمِ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا خَصَّكُمْ بِهِ مِنَ التَّوْسِعَةِ فِي السَّكَنِ، وَمَا اسْتَخْلَفَكُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيرِ، واسْتَشْعِرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالرِّفْقِ بِمَنْ حُرِمَهَا، فَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَطْعَمَنا وَسَقانا، وَكَفانا وَآوانا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كافِيَ له وَلا مُؤْوِيَ) أخرجه مسلم (2715) وقُومُوا بِحَقِّ تِلْكَ النِّعَمِ، وأَدُّوا شُكْرَهَا، بِالإِحْسَانِ إِلَى مَنْ لا مَأْوَى لَهُم، والتَّعَاوُنِ مَعَهُم، وَعَدَمِ اسْتِغْلالِ حَاجَتِهم، قَالَ ﷺ: (مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زادٍ، فَلْيَعُدْ به على مَن لا زادَ له) أخرجه مسلم (1728).
واعْلَمُوا -أَغْنَاكُمُ اللهُ- أَنَّ الْبَرَكَةَ قَرِينَةُ الرَّحْمَةِ، وَالْغِنَى قَرِينُ الصَّدَقَةِ، والْقَنَاعَةَ سَبِيلُ الْغِنَى، وَالْفَقْرُ قَرِينُ الْبُخْلِ، فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا سَبَبًا لِتَفْرِيقِ الأُسَرِ، وَزِيَادَةِ أَعْبَائِهَا، قَالَ ﷺ: (مَن ضارَّ أضَرَّ اللهُ به، ومَن شاقَّ شاقَّ اللهُ عليه) أخرجه أبو داود (3635) وصححه الألباني. واتَّقُوا اللهَ عزَّ وجلَّ فِيمَنْ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ مِنَ المُسْتَأْجِرِينَ، وَمَنْ وَلّاكُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ ﷺ: (اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم، فاشْقُقْ عليه، وَمَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهِمْ، فارْفُقْ بهِ) أخرجه مسلم (1828).
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنَ السَّمَاحَةِ الرِّفْقُ بِهَؤُلاءِ الأُسَر مَحْدُودِي الدَّخْلِ، قَلِيلِي الْكَسْبِ بِالتَّرَفُّقِ بِهِم، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَظُرُوفِهِمْ، وَاحْتِسَابِ الأَجْرِ في التَّخْفِيفِ عَنْهُم وَإِمْهَالِهِمْ، وَإِنْظَارِهِمْ، والتَّجَاوُزِ عَنْهُم، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ (كانَ تاجِرٌ يُدايِنُ النّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفِتْيانِهِ: تَجاوَزُوا عنْه، لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنّا، فَتَجاوَزَ اللَّهُ عنْه) أخرجه البخاري (2078) ومسلم (1562). وَلا نَغْفَلُ أَنَّ هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَارَاتِ والملاكِ أَهْلُ دِيَانَةٍ، يَخَافُونَ اللهَ عزَّ وجلَّ، ويُرَاعُونَ حَاجَات المسْتَأْجِرِينَ، وَلا يُحَمِّلُونهُم مَا لا يَطِيقُونَ، وَيَقْنَعُونَ بِمَا يَأْخُذُونَ، وقد عايشنا الكثيرين لا يزيدون عليهم الأجرة، بعد تأثيت بيوتهم، واستقرارهم، فجزاهم الله خيرًا، وخلف عليهم الصحة والبركة والرزق.
عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ ظَاهِرَةَ غَلاءِ الإِيجَارَاتِ، نَاقُوسُ خَطَرٍ، وَنَذِيرُ شُؤْمْ، فَإِذَا نَزعَ النَّاسُ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، نَزَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ الرَّحْمَةَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَترَاحَمُوا تُرْحَمُوا وتَعَاوَنُوا تُؤْجَرُوا، قَالَ ﷺ (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحمَْكُم مَنْ فِي السَّمَاءِ) وقال ﷺ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى) أخرجه البخاري (2076). أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) البلد: [17- 18]. بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ للهِ وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أنَّ ظَاهِرَةَ ارْتِفَاعِ أَسْعَارِ الْعَقَارَاتِ والإِيجَارَاتِ الَّتِي تُؤَرِّقُ المُجْتَمَع، وَتَقُضُّ مَضْجَعَهُ، لَمْ تَغِبْ عَنْ أَنْظَارِ وُلاةِ الأَمْرِ الَّذِينَ يَضَعُونَ نَصْبََ أعْيُنِهِم رَاحَةَ الموَاطِنِ والمقِيم، وأَمْنَ المجْتَمَعِ واسْتِقْرَارَه وَإِزَالَةَ كُلّ مَا مِنْ شَأْنِهِ التَّضْيِيقُ على المجْتَمَعِ، أوِ الإِضْرَارُ بِهِ، فقد وجّهَ سُمُو وَلِيّ الْعَهد صاحب السمو الملكي الأمير محمَّدُ بنُ سلمان -حفظهُ اللهُ- بالقضاءِ على تلكَ الظاهرةِ، من خلالِ قراراتٍ صارمةٍ وعادلةٍ تَضْبِطُ السُّوقَ الْعَقَارِيَّ، وتَحْفَظُ اسْتِقْرَارَ المجْتَمَعِ، وتَضْمَنُ حَقَّ الموَاطِنِ والمقِيمِ في الحصولِ على سكنٍ آمنٍ ينَاسِبُ احتِيَاجَاتِهِ ويُلَبِّي مُتَطَلَّبَاتِهِ. وَهَذَا التَّوجِيهُ الْكَرِيمُ مِنْ سُمُو ولِيّ العَهْد-حفظهُ اللهُ وأيَّدَهُ- يَتَضَمَّنُ مَعَانِي سَامِيّةً، وَرَسَائِلَ واضحةً، أهمُّهَا: حِرْصُهُ -حَفِظَهُ اللهُ- على تَذْلِيلِ الْعَقَبَاتِ، وَإِزَالَةِ التَّعَدِّيَّاتِ، والتَّصَدِّي لِجَشَعِ التُّجَّارِ، وأَرْبَاب الْعقَارَاتِ؛ لِضَمَانِ رَاحَةِ واسْتِقْرَارِ الموَاطِنِينَ والمقِيمِينَ، وأنَّ هَذَا أَوَّلُ الأَوْلَوِيّاتِ، ورَأْسُ المهِمَّاتِ. أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يَحْفَظَ وُلاةَ أَمْرِنَا، وأنْ يَجْزِيَهُم خَيرَ الْجَزَاءِ، وأنْ يَحْفَظَ بِلادَنَا أَمِنَةً مُسْتَقِرَّةً وَسَائِرَ بِلادِ المسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 18/ 4 /1447هـ