فضل العلم والعلماء وعظم أثر فقدهم

عبد الله بن علي الطريف
1447/04/03 - 2025/09/25 11:53AM

فضل العلم والعلماء وعظم أثر فقدهم 1447/4/4هـ (وفاة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ)

أيها الإخوة: لقد أثنى الله تعالى على العلم وأهله.. ورفع أهلَ العلمِ والإيمانِ درجات بحسب ما خصهم الله به، من العلم والإيمان.. فقال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). [المجادلة:11] ونفى سبحانه التسوية بين أهل العلم وغيرهم فقال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9] قال الشيخ السعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليلُ والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.. واستشهد سبحانه بأولي العلم على أجلِ مشهودٍ عليه وهو توحيد الله فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]. قال القرطبي-رَحِمَهُ اللهُ-: "فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللَّهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ".. وجاءت السنةُ مشيدةٌ بأهل العلم ومؤكدةٌ لفضلهم على عموم الناس قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ، كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني..

قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَقَوله: «إِنَّ الْعلمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» هَذَا من أعظمِ المناقب لأهلِ الْعلم فَإِن الأنبياءَ خيرُ خلقِ اللهِ فورثتُهم خيرُ الْخلقِ بعدَهمْ، وَلما كَانَ كل مُورِّثٍ ينْتَقلُ مِيرَاثُه الى ورثتِهِ إِذْ هُمْ الَّذين يقومُونَ مقَامَه من بعدِه.. وَلم يكن بعد الرُّسُلِ مَنْ يقومُ مقامَهم فِي تَبْلِيغ مَا أُرسلوا بِهِ إلا الْعلمَاء كَانُوا أحقَ النَّاسِ بميراثِهم.. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أَنَّهم أقْربُ النَّاسِ إليهم فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إِنَّما يكون لأقربِ النَّاسِ إلى الْمَوْرُوث وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابت فِي مِيرَاثِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَكَذَلِك هُوَ فِي مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَاللهُ يخْتَصُ برحمته من يَشَاء.. وَفِيه ايضًا ارشادٌ وأمرٌ للْأمةِ بطاعتِهم واحترامِهم وتعزيرِهم وتوقيرِهم وإجلالِهم.. فَإِنَّهُم وَرَثَةُ مَنْ هَذِه بعضُ حُقُوقِهم على الْأمةِ وخلفاؤهم فيهم.. وَفِيه تَنْبِيهٌ على أَنَّ محبتَهم من الدّينِ وبغضَهم منَافٍ للدّين كَمَا هُوَ ثَابتٌ لمورثِهم.. وَكَذَلِكَ معاداتُهم ومحاربتُهم معاداةٌ ومحاربةٌ لله كَمَا هُوَ فِي موروثهم.. قَالَ عليٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- محبَّةُ الْعلمَاءِ دينٌ يُدَانُ اللهُ بِهِ.. وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يرْوى عَن ربِهِ عَزَّ وَجل إِنَّ اللَّهَ قَالَ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ..» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وورثةُ الأنبياء سَادَاتُ أولياءِ للهِ عزَّ وَجل".. انتهى. مفتاح دار السعادة.

وبين رسولُ الله فضل العلماء وعظيم منزلتهم حتى على العُبْاد، فَقَدْ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني ثم قال الترمذي: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» وقال الألباني حسن لغيره.

قال ابن جماعة: "واعلم أنَّهُ لا رُتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها، وأنَّه لَيُنَافَسُ في دعاء الرجل الصالح أو مَنْ يُظَنُّ صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له، وقيل: معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقصده.. وأما إلهام الحيوانات بالاستغفار لهم فقيل: لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم الذين يُبَيِنُون ما يحلُ منه وما يحرم ويُوصُون بالإحسانِ إليها ونفي الضَررِ عنها".. انتهى تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم

ومن فضل الله ومنته أَنَّ العالمَ الذي ينشرُ علمَه ويُعَلِمُهُ للناس له مثل أجر من عمل بهذا العلم من غير أن ينقص من أجورِهم شيئًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.. فأي عطاء أعظم من هذا العطاء..

أيها الاخوة: ومما قيل في فضل العلم والعلماء قولُ وهب ابن منبه: يتشعب من العلم الشرف وان كان صاحبه دنيئًا.. والعز وإن كان مهينًا.. والقرب وإن كان قصيًا.. والغنى وان كان فقيرًا.. والمهابة وان كان وضيعًا.. وقال سهل التستري من اراد النظر الى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك.. وقال الشافعي: إن لم يكن الفقهاءُ العاملون أولياءَ الله فليس لله ولي.. وقال سفيان: لا اعلم بعد النبوة أفضل من العلم.. أسأل الله تعالى ألا يحرمنا فضله ويجعلنا هداة مهتدين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: ما سمعتم ذاك فضل العلم والعلماء أما فقدهم فهو من أعظم الرزايا وأشدها.. فموتُ العلماء يهز كيان المجتمع ويكون حديث الساعة..

موت العلماء مصيبة عظمى.. وقضية تُقِضُ المضاجع.. كيف لا يكون الأمر كذلك وموت العالم موتٌ لخير كثير.. وفقد العالم ليس فقدًا لشخصيته فحسب، ولكنه فقد لجزء من تُراث النبوة بحسب ما قام به من بذل للعلم والدعوة.. ولا يعوض تلك المصيبة إلا أن ييسر الله للأمة من يخلفه بين العالمين فيقوم بمثل ما قام به من بذل للعلم والدعوة.. والناظر في تاريخ الأمة يرى العجب في تأثرها بموت علمائها وفقدهم في هذا الزمان أعظم لأن العلماء العاملين أصبحوا ندرة قليلة بين الناس قال أحدهم:

إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى... فقد ثُلِمَتْ مِنْ الإسلامِ ثُلمة.

أيها الإخوة: ولقد فقدت أمة الإسلام في هذا الأسبوع عالمًا من علمائِها وصالحًا من صلحائِها وعابدًا من عبادها.. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.. إنه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه. وكأنه يصدق فيه قول القائل: كَأَنَّهُ وَهُوَ فَرْدٌ فِيِ جَلالتِهِ .... في عسكرٍ حينَ تلقاه وفي حشمِ.

وقد نَشأ رحمه الله يتيمًا وفقد بصره في العشرينات من عمره، ولم يثنه ذلك عن معالي الأمور فنشأ نشأة صالحة منذ صغره، فحفظ القرآن صغيرًا، وطلب العلم فنهل من علم الأكابر من علماء المملكة، وعاصر المفتين قبله ونهل من علمهم، وأمضى حياته في التعلم والتعليم والدعوة والإرشاد.. وكان ورعًا تقيًا عابدًا كثيرَ الصلاة والتلاوة ناصحًا لولاةِ الأمر وعمومِ المسلمين محبًا للناس عطوفًا عليهم وخصوصًا طُلاب العلم باذلًا للعلم.. ومن حرصه على التعليم والفتوى أنه كان يأتيه مقدمُ برنامجِ نورٍ على الدرب وهو في سريره في المستشفى ويلقي عليه أسئلة المستمعين ويجيب رحمه الله وهو على الأجهزة.. وكان آخرُ درس له قبل وفاته بيومين وكان القارئ يقرأ عليه ويقرر مع شدة مرضه وتألمه، وبقي حتى حمل متألمًا لم يستطع إتمام درسه.. ومما تميز به رحمه الله ‏أنه كان يحج في كل عام عن عالمٍ من علماء المسلمين الذين لم يستطيعوا إلى الحجّ سبيلا، مثل الإمام ابن حزم، والإمام النووي، وابن عبد البر، وابن رجب، والمنذري وغيرهم..

 

ورحلتَ، كلُّ العالمين سترحلُ ... ‏أَجَلٌ وأمــــــر الله ليس يؤجَّلُ

‏(عبد العزيز) سماحة المفتي مضى ...‏لله، طاب جوارُه والمنزلُ

ما أظلمتْ عيناكَ، روحك أشرقتْ ... ‏نور اليقين وفي فؤادك مشعلُ

بقيَتْ حدائقكَ التي خلّفْتَها ... ‏العلمُ يحفظُ أهلَه لا يذبلُ

‏ورحلتَ، ودّعْنا عظامك في الثرى ... ‏لكنّ علمَك خالدٌ لا يرحلُ

 

المشاهدات 752 | التعليقات 0