ففيهما فجاهد

الخطبة الأولى

 الحمدُ للهِ الموفقِ مَنْ شَاءَ لِمَكارِم الأخلاقِ، والهادي لِما فيهِ فلاحُهم يَومَ التَّلاقِ، وأَشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ المَلِكُ الخَلاَّق، وأَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورَسولُهُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آلِهِ وأَصحَابِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. 

( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ).

 أما بعد:  دخل رسول الله ﷺ الجنة، فسمِع فيها قراءة، فقال ﷺ: من هذا ؟ قالوا: هذا حارثةُ بن النعمان  فقال ﷺ: "كذلكم البر كذلكم البر".  أي أن ما أوصله إلى هذه المرتبة برُّه بوالديه ــــ وكان الحارثة هذا من أبر الناس بأمه ــــ .

أجل، إنه البر، بر الوالدين.. تلك العبادة العظيمة التي قَرَنَها الله بعبادته في أكثر من موضع من كتابه الكريم، بر الوالدين عبادةٌ من أعظم الفرائض والواجبات، فما حالنا معها، وما نصيبنا منها؟

قال ربكم تبارك وتعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ وقال سبحانه: ﴿  وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾

وأخبر النبي ﷺ أن بِرَّ الوالدين أفضلُ من الجهاد في سبيل الله، عن عبد الله ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قُلتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". وفي رواية لأبي داود قال: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: "ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا" 

والوالد أوسط أبواب الجنة، قال رسول الله ﷺ: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ".

 وأخبر النبي ﷺ بخسارة من أدرك أبويه عند الكبر فلم يدخلاه الجنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ"، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ". وقد ذكر الله عن أنبيائه أنهم كانوا بررةً بوالديهم، قال تعالى عن نبيه يحيى: ﴿  وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ وقال تعالى عن نبيه عيسى: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾

 والأم لها أعظم الحقوق بعد حق الله ورسوله ﷺ، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾ وبيَّن العلة في ذلك حثًّا للأولاد على الاعتناء بهذه الوصية، ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ﴾ أي ضعفاً على ضعف، ومشقةً على مشقة في الحمل، وعند الولادة، ثم حضنُه في حجرها وإرضاعه قبل فطامه، فقال تعالى: ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ وفي حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: "أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أَبُوكَ".

 وفي حديث معاويةَ ابنِ  جاهمة- رضي الله عنه -: "أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنتُ أَرَدْتُ الجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَ: "وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟!"، قلت: نعم، قال: "ارْجِعْ فَبِرَّهَا.." وفي آخر الحديث قال له: "وَيْحَكَ! الزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الجَنَّةُ". ولقد أوصى الله تعالى بصحبة الوالدين بالمعروف، وإن كانا كافرين، فقال تعالى: ﴿  وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾. وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما  قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ".

ومهما قدم الولد من إحسان فلا يستطيع رد جميل الوالدين، قال رسول الله ﷺ: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ".

 ورضا الله في رضا الوالدين، قال النبي ﷺ: "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ".

وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر لما فيه من عدم الوفاء ونكران الجميل، ويكفي أن النبي ﷺ قرنه بالشرك، وهو أعظم الذنوب، قال رسول الله ﷺ : "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ" ثَلَاثًا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللهِ، قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ". وعقوق الوالدين سبب لدخول العبد النار، قال ﷺ: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِن بَعدِ ذَلِكَ، فَأَبعَدَهُ اللهُ وَأَسحَقَهُ".

 وبر الوالدين يكون ببذل المعروف، والإحسانِ إليهما بالقول، والفعل، والمال، أما الإحسان إليهما بالقول: بأن يخاطبا باللين واللطف مستصحباً كل لفظ يدل على اللين والتكريم، وأما الإحسان بالفعل، بأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج، والمساعدة على شؤونهما، وتيسير أمورهما، وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك، ثم الإحسان بالمال، بأن تبذلَ لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه، طيبةً به نفسك، منشرحاً به صدرك، غير متبعٍ له بمنة، بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في قبوله والانتفاع به.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:

( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ).  

فيا أيها البارُّ بوالده: إن كان والداك ممن قضيا نحبهما، وانتقلا إلى ربهما أحدهما أو كلاهما، فأبشّرك أن حبل البر لم ينقطع، فما زال موصولًا، فأكثر من الدعاء والاستغفار له، وجدِّد برَّك بهم بكثرة الصدقة عنهم، وصلة أقاربك من جهتهم، جاء رجلٌ إلى النَّبيّ ﷺ فقال: "يا رسول الله هل بقي من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهُما به بعد موتِهما؟" قال: "نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهِما من بعدهما، وصلة الرَّحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"

فمن بر الوالدين بعد موتهما: الدعاء لهما والاستغفار، وهو نهج الأنبياء، ومن دعاء نبي الله نوح: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴾ . وعن أبي هريرة رضي الله عنه  أن النبي ﷺ قال: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"

ومن برِّهما: الصدقةُ عنهما، ففي حديث عائشة رضي الله عنهما : أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ ﷺ إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ".

 ومنه: صلة أصدقائهما، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ: صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ". 

نعم إن البُيُوتَ التي فِيهَا الوالدان، بُيُوتٌ يَكسُوهَا الوَقَارُ، وتَشِّعُ فِي أَرجَائهَا الأَنوارُ، كَم فِيهَا مِن ذِكرٍ ودُعَاءٍ، وكَم فيهَا مِن بَركَةٍ وعَطَاءٍ، فَاملؤوا حَيَاتَهُما بالسَّعَادةِ والسُّرورِ، والبَهجَةِ والحُبُورِ، ولا يُتركُوا في أواخرِ أعمارهما حبيسَا الجُدرانِ، وحتى لا يكونان أسيران للأحزانِ، فإن البِّرَّ والإحسان في وصية العزيزِ الرَّحمنِ؟ ﵟوَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ ﵞ. بل يَتأكدُ الاحترامُ والتَّوقيرُ، عِندَما يَضعُفُ الكبيرُ، فيَخونُه البصرُ، ويغدُرُ بهِ السَّمعُ، وتَتنكَّرُ له الذَّاكرةُ، كما قالَ تعالى: ﵟ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ ﵞ.

أيَّها المسلمون .. ألمْ يَأتِ وقتُ ردِّ الجميلِ، قَبلَ أن يُبادِرَ موعدُ الرَّحيلِ، هل نَسينا سَهرَ اللَّيالي، هل غَفلنا عن الأيامِ الخوالي، فقد كانتْ سعادةُ الأمَّهاتِ في رؤيةِ تِلكَ البَسَماتِ، وكانتْ فرحةُ الآباءِ في البَذلِ والعطاءِ، فمتى عسى أن نوفيَهم بَعضَ حقِّهم وشُكرِهم، وكلُ ما نَنعمُ بهِ اليومَ من تَضحيةِ عُمرِهم، فكما أَكرَمونا صِغاراً، فيَنبغي أَن نُحسِنَ إليهم كِباراً، فَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.

اللهم ارزقنا برّ آبائنا وأمهاتنا، أحياءً وأمواتًا، اللهم ارحمهما كما ربونا صغارًا، اللهم جازهم بالحسنات إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وغفرانًا، واجمعنا بهم في جناتك جنات النعيم.

 

المرفقات

1755161117_��ففيهما فجاهد�.pdf

1755161119_��ففيهما فجاهد�.docx

المشاهدات 780 | التعليقات 0