كبير السنّ
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ الخلائِقَ، وحَدَّدَ الأعمارَ والآجالَ، وقَدَّرَ الأقواتِ والأرزاقَ، نَحمَدُهُ سُبحانَهُ وتَعالى ونشكُرُهُ ونَتوبُ إلَيهِ ونستغفِرُهُ، ونشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ، والتَّابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ:
لقد خَلَقَ اللهُ الإنسانَ ضعيفاً، ثم قوَّاهُ بالشبابِ والعافيةِ، ثم ردَّهُ إلى الضعفِ والمشيبِ، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعفاً وَشَيْبَةً﴾.
إنَّ طُولَ العُمُرِ مَعَ حُسْنِ العَمَلِ نِعمةٌ من نِعَمِ اللهِ تعالى، أخبرَ بذلك نبيُّنا ﷺ: "إنَّهُ إذا ماتَ أحَدُكُمُ انقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّهُ لا يَزِيدُ المؤمنَ عُمرُهُ إلَّا خيراً" رواه مسلم.
وهٰذِهِ المَرحلَةُ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلقِهِ، عاشَها حتّى أنبياؤُهُ ورُسُلُهُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَهِيَ ضَعفٌ فِي الجَسَدِ، لَكِنَّهَا تَمامُ التَّجرِبَةِ، ونُضجُ الحِكمَةِ، وزِينَةُ الشَّيبِ.
وقَدْ عُدَّ فِي لِحْيَةِ نَبِيِّنا ﷺ نَحْوُ سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ عِشْرِينَ شَيْبَةً، زَادَتْهُ وَقارًا وَجَمَالًا.
وهٰذا نَبِيُّ اللهِ زكريَّا عَلَيهِ السَّلامُ، يَشعُرُ بِوَهَنِ العَظمِ وَضَعفِ البَدَنِ، وَقَد شابَ شَعرُ رأسِهِ، فَنادَى رَبَّهُ قَائِلاً: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَم أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾.
عبادَ اللهِ: لقد أعلى الإسلامُ قدرَ الكبيرِ ورَفَعَ منزلتَهُ، وأوصى بهِ خيراً، نظرَ اللهُ إلى ضَعفِهِ وقِلَّةِ حيلَتِهِ فرَحِمَهُ وعفا عنه: ﴿إلَّا المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلدانِ لا يَستَطيعونَ حِيلَةً وَلا يَهتَدونَ سَبِيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً﴾.
وقد أكملَ اللهُ للكبيرِ الأجرَ إذا كبُرَ سِنُّهُ، ورَقَّ عظمُهُ، ووَهَنَ بدنُهُ، وأصبحَ لا يستطيعُ أداءَ العباداتِ على وجهِها، فأباحَ لهُ أن يُنيبَ في الحجِّ، وأباحَ لهُ الفطرَ في رمضانَ إن عَجَزَ عن الصيامِ، كما أباحَ لِلكَبيرةِ مِنَ النِّساءِ التخفُّفَ مِنَ الحجابِ.
كما أباحَ للكبيرِ أن يُصلِّيَ بالكَيفيَّةِ التي يَستطيعُها إن شَقَّ عليهِ إتمامُها، قال رسولُ اللهِ ﷺ: "إذا مَرِضَ العبدُ أو سافَرَ كُتِبَ لهُ مثلُ ما كانَ يَعملُ مُقيماً صحيحاً". رواه البخاري
وكان ﷺ يصلي النافلة قاعدا، وذلك لمّا تحمّلَ أمورَ الناسِ واعتنى بمصالحِهم، فصَيَّروه شيخًا قبل أوانِه، سئلتْ عائشةُ رضي الله عنها، أَكانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يصلِّي قاعدًا؟ قالت: بعدَما حطمَهُ النّاسُ. رواه مسلم
ومن رحمته ﷺ بكبارِ السِّنِّ ورِفقِه بهم، أنَّه لمّا جاء شيخٌ يُريدُه ﷺ، فَأبطأَ القَومُ عنهُ أن يُوَسِّعوا لهُ، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: "ليسَ منَّا من لم يَرحَم صَغيرَنا، ويَعرِف حقَّ كبيرِنا" رواه التِّرمذيّ
ولمّا دخلَ رسولُ اللهِ ﷺ مكةَ يومَ فَتحِها، أتى أبو بكرٍ بأبيهِ يقودُهُ، وقد كُفَّ بَصرُهُ، وعلا الشَّيبُ رأسَهُ، فلمّا رآهُ رسولُ اللهِ ﷺ قال: "هلاَّ تركتَ الشَّيخَ في بيتِهِ حتى أكونَ أنا آتيه فيه؟" رواه الحاكم وصححه
وإكرامُ الكبيرِ واحترامُهُ وتقديرُهُ من إجلالِ ربِّ العالمينَ سبحانهُ وتعالى، جاءَ عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: "إنَّ من إجلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ". رواه أبو داود وصححه الألباني
معاشرَ الشبابِ: اعلموا أنَّ إجلالَ الكبيرِ وتوقيرَهُ ومساعدتَهُ لقضاءِ حوائِجِهِ، سُنَّةٌ من سُنَنِ الأنبياءِ والرُّسُلِ، فهذا موسى عليهِ السلامُ يخبر تعالى عنه بقولِه: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾.
وجاءَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: "أراني في المنامِ أتسوَّكُ بسِواكٍ، فجذبَني رجلانِ أحدُهما أكبرُ من الآخرِ، فناولتُ السِّواكَ الأصغرَ منهما، فقيلَ لي كبِّر، فدفعتُهُ إلى الأكبرِ" رواه مسلم.
ويَتَأَكَّدُ الاحترامُ والتَّقديرُ عندما يكونُ كبيرُ السِّنِّ قريباً أو جاراً، وذلكَ لحقِّ القَرابةِ والصِّلةِ والجِوارِ.
وأخصُّ من ذلكَ الآباءُ والأمَّهاتُ: ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعبُدوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالوالِدَينِ إحساناً إمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً * وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً﴾.
والكِبارُ أَولى النّاسِ بالمُبادَرَةِ إليهم وإجلالِهم واحترامِهم، ففي السَّلامِ، وهو أبسطُ صُوَرِ التَّواصُلِ، أمرَ ﷺ أن: "يُسَلِّمَ الصَّغيرُ على الكبيرِ" متفق عليه
ولمَّا جاءَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ سهلٍ إلى النبيِّ ﷺ، ومعَهُ من هو أكبرُ منهُ، ذهبَ عبدُ الرَّحمنِ يتكلَّمُ؛ فقالَ النبيُّ ﷺ: "كبِّرْ كبِّرْ"، أي قَدِّمِ الأكبرَ سِنّاً ليتكلَّمَ. متَّفقٌ عليه
ومن حقوقِهم مراعاةُ كِبَرِ سنِّهم، وملاحظةُ ضعفِهم وَوَهْنِ أبدانِهم، وتقديرُ مشاعِرِهم وأحاسيسِهم، وذلكَ من أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ، وتفريجِ الكُروبِ، ففي قِصَّةِ الثَّلاثةِ الذينَ انطبقت عليهمُ الصَّخرةُ، قالَ أحدُهم: "اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أَغبِقُ قبلَهما أهلاً ولا مالاً، - أي :لا أُقَدِّمُ عليهما أحدًا في شُرْبِ لَبنِ العَشِيِّ-، فَنَأى بي في طلبِ شيءٍ يوماً، فلم أُرِحْ عليهما حتى ناما، فحَلَبتُ لهما غَبوقَهما، فوجدتُهما نائمَيْنِ، وكرهتُ أن أَغبِقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً، فلبثتُ والقَدَحُ على يَدَيَّ أنتظرُ استيقاظَهما حتى برقَ الفجرُ، فاستيقظا، فشرِبا غَبوقَهما، اللَّهُمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ، ففرِّجْ عنَّا ما نحنُ فيه من هذه الصَّخرة، فانْفَرَجَتْ شيئًا". متفق عليه
والموفَّقُ عبادَ اللهِ من يَتلمَّسُ عند كبارِ السِّنِّ الخيرَ والبَرَكَةَ، ويتحرَّى دُعاءَهم والإحسانَ إليهم، وهذا الإحسانُ سببٌ للرِّزقِ والنَّصرِ؛ قالَ النبيُّ ﷺ: "البَرَكَةُ معَ أكابِرِكُم" رواه الحاكم وصحّحه
أعوذُ باللهِ منَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ: ﴿اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُم مِن ضَعفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ قُوَّةٍ ضَعفاً وَشَيبَةً يَخلُقُ ما يَشاءُ وَهوَ العَليمُ القَديرُ﴾.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسُّنَّةِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمةِ، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عظيمِ الإحسانِ، واسعِ الفضلِ والجودِ والامتنانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
وبعدُ عبادَ اللهِ:
جاء في الحديثِ أنَّ رجلينِ أسلما معًا، فاستُشهِدَ أحدُهما، وعاشَ الآخرُ بعدَهُ سنةً ثم مات، فرُئيَ في المنام أنَّ الثانيَ أفضلُ درجةً من الشهيد، فأَجابَ ﷺ بقوله: "أليسَ قد مكثَ بعدَهُ سنةً، فأدركَ رمضانَ وصامَهُ، وصلَّى كذا وكذا سجدةً؟ فبينهما أبعدُ ممَّا بينَ السماءِ والأرضِ". رواه ابن ماجه وأحمد
أيُّها الأحبَّةُ: إنَّ طولَ عمرِ المؤمنِ فُرصةٌ للتزوُّدِ من الحسناتِ والطاعاتِ، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "خيرُ الناسِ مَن طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ". رواه الترمذي وأحمد
وكبارُ السِّنِّ يعيشونَ مرحلةَ إقبالٍ على الآخرةِ، فالطاعةُ فيهم تزيدُ، والخيرُ فيهم يكثرُ، والوقارُ عليهم يظهرُ.
لمَّا بلغَ النبيُّ ﷺ ستِّينَ سنةً، ونزلتْ سورةُ النصرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴿إِذَا جَاءَ نَصرُ اللهِ وَالفَتحُ * وَرَأيتَ النّاسَ يَدخُلونَ في دينِ اللهِ أفواجاً * فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إنَّهُ كانَ توَّاباً﴾، فأخذَ ﷺ في أشدِّ ما يكونُ اجتهادًا في أمرِ الآخرةِ، حتّى قالتْ أُمُّ سَلَمةَ رضيَ اللهُ عنها: كانَ ﷺ لا يقومُ ولا يقعدُ، ولا يذهبُ ولا يجيءُ، إلّا قالَ: "سُبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ".
فيا ابنَ آدمَ: إذا رقَّ عظمُكَ، وشابَ شعرُكَ؛ فقد أتاكَ النذيرُ: ﴿أَوَلَم نُعَمِّركم ما يَتَذكَّرُ فيهِ مَن تذكَّرَ﴾. قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُما في قولِهِ تعالى: ﴿أَوَلَم نُعَمِّركم﴾ أي: ستِّينَ سنةً، وفي قولِهِ: ﴿وجاءكم النذيرُ﴾ أي: الشَّيبُ.
لذلكَ يَقبُحُ من كبيرِ السِّنِّ وممَّن غزاهُ الشَّيبُ أن يُشتهَرَ عنهُ الخطأُ والذَّنبُ، ولذا جاءَ الوعيدُ الشديدُ على لسانِ نبيِّنا ﷺ حينَ قالَ: "ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهمُ اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزكِّيهم، ولا يَنظُرُ إليهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائلٌ مُستكبِرٌ". رواه مسلم
وما أحوجَنا إلى امتثالِ قولِ ربِّنا: ﴿حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَربَعينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوزِعنِي أَن أَشكُرَ نِعمَتَكَ الَّتي أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَن أَعمَلَ صالِحاً تَرضاهُ وَأَصلِح لِي في ذُرِّيَّتي إنِّي تُبتُ إلَيكَ وإنِّي مِنَ المُسلِمينَ﴾.
اللَّهُمَّ أطِلْ أعمارَنا وأحسِنْ أعمالَنا وأحسِنْ خَواتيمَنا.
اللَّهُمَّ ارحمْ والدَيْنا كما ربَّيانا صغاراً.
اللَّهُمَّ ارحمْ أمواتَنا وأمواتَ المسلمينَ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لهم وارحمْهم.
المرفقات
1757068899_كبير السن - للجوال.pdf