لقد سألت عن عظيم!
راكان المغربي
!لقد سألت عن عظيم
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، أما بعد:
اسْمَحُوا لِي مَعَاشِرَ الْمُصَلِّينَ أَنْ آخُذَ بِتَلَابِيبِ قُلُوبِكُمْ، لِأُهَيِّئَهَا لِاسْتِقْبَالِ رَشَفَاتٍ نَقِيَّةٍ مِنْ أَنْهَارِ النَّصِيحَةِ الصَّادِقَةِ. تَعَالَوْا بِنَا نَعِيشُ مَوْقِفًا مِنْ مَوَاقِفِ الصَّحْبِ الْكِرَامِ، مَعَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
مَوْقِفٌ لَا أَظُنُّ أَنَّهُ تَجَاوَزَ دَقَائِقَ مَحْدُودَةً، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامٍ يَسِيرٍ مَعْدُودِ الْجُمَلِ وَالْكَلِمَاتِ، لَكِنَّ هَذَا الْمَوْقِفَ كَانَ خَالِدًا بِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَعَانِي، وَجَلِيلِ الْقَوَاعِدِ.
وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: وَمِنْهَا أَنَّهُ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ؟! فَيَجْمَعُ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةَ وَالْمَوَاعِظَ الْجَمَّةَ فِي كَلَامٍ قَلِيلٍ يَسِيرٍ، وَكَمَا قِيلَ: خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ.
يَقُولُ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
"بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ أَصَابَنَا الْحَرُّ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ حَتَّى نَظَرْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَبُهُمْ مِنِّي. فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْبِئْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟"
هَكَذَا كَانَتْ هُمُومُهُمْ، تِلْكَ هِيَ أَحْلَامُهُمْ، ذَلِكَ هُوَ الشُّغْلُ الشَّاغِلُ الَّذِي ظَلَّ لَا يُفَارِقُهُمْ مُنْذُ أَنْ عَرَفُوا هَذَا الدِّينَ. مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْتَنِصُ فُرْصَةَ الْخَلْوَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَهُ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، كَيْفَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ وَكَيْفَ يَنْجُو مِنَ النَّارِ؟
وَهَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَأْتِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا أَتَى فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ تَقْرِيبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُعَاذًا -وَهُوَ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ- قَدْ سَمِعَ أَجْوِبَةً مُمَاثِلَةً قَبْلَ ذَلِكَ، لَكِنَّ حَمْلَ هَمِّ الْآخِرَةِ، وَالْيَقِينَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَجْعَلُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ دَافِعًا لَا يَتَوَقَّفُ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى الْجِنَانِ، وَالْهُرُوبِ مِنَ النِّيرَانِ، فَتَجِدُهُ يَقْتَنِصُ كُلَّ فُرْصَةٍ وَكُلَّ عَمَلٍ يُحَقِّقُ لَهُ تِلْكَ الْغَايَاتِ الْعَظِيمَةَ؟
فَمَا هُوَ حَالُ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي قُلُوبِنَا؟ هَلْ نَحْمِلُ هَمَّ الْآخِرَةِ؟ وَهَلْ نَجْعَلُ نَصْبَ أَعْيُنِنَا غَايَةَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ؟ أَمْ أَنَّ هُمُومَنَا الدُّنْيَوِيَّةَ أَشْغَلَتْنَا عَنْ تِلْكَ الْأَهْدَافِ الْعُلْيَا؟
نُكْمِلُ الْحَدِيثَ:
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْبِئْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)
الْمَسْؤُولُ عَنْهُ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ يَسِيرٌ. يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، يَسِيرٌ عَلَى مَنْ سَلَكَ الْمَسْلَكَ الصَّحِيحَ، فَاسْتَعَانَ بِاللَّهِ، وَاسْتَمَدَّ مِنْهُ الْهِدَايَةَ، وَعُصِمَ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمُضِلَّاتِ.
إِنَّهُ لَيْسَ طَرِيقًا مُعَقَّدًا، يَحْتَاجُ إِلَى طَرْحِ النَّظَرِيَّاتِ، وَشَرْحِ الْفَلْسَفَاتِ، أَدِّ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةَ، كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهَا، فَإِنْ أَدَّيْتَهَا وَتَقَبَّلَهَا اللهُ مِنْكَ، فَقَدْ أَقَمْتَ أَرْكَانَ دِينِكَ، وَفَعَلْتَ مَا يُقَرِّبُكَ مِنَ الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ.
تُقِيمُ التَّوْحِيدَ فَتَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
تُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَتُصَلِّيهَا فِي مَوَاقِيتِهَا بِأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، لَا تَتْرُكُ صَلَاةً تَهَاوُنًا، وَلَا تُؤَخِّرُ أُخْرَى عَنْ وَقْتِهَا كَسَلًا. تَسْتَمِرُّ بِذَلِكَ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ.
تُؤْتِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْكَ، فَتُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِكَ إِذَا مَا بَلَغَ النِّصَابَ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ كُلَّ عَامٍ.
تَصُومُ رَمَضَانَ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهُ.
تَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
هَذَا هُوَ طَرِيقُ الْجِنَانِ بِاخْتِصَارٍ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ: ثُمَّ تَلَا (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
لَمَّا رَتَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، دَلَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ مِنَ النَّوَافِلِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ، الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ.
إِنَّهَا أَبْوَابُ الْخَيْرِ الَّتِي إِنْ فَتَحْتَهَا فَتَحَتْ لَكَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، وَنِلْتَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ.
الصِّيَامُ جُنَّةٌ، أَيْ دِرْعٌ تَحْتَمِي بِهِ مِنَ النَّارِ، وَدِرْعٌ يَحْمِيكَ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْمُضِلَّاتِ.
وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ.
وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، حِينَ يَهْجُرُ الْمُسْلِمُ لَذَّةَ الْفِرَاشِ، وَيَتَجَافَى عَنْهُ قَائِمًا لِلَّهِ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ.
ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)
رَأْسُ الْأَمْرِ أَيْ رَأْسُ الدِّينِ، فَرَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، أَيْ الشَّهَادَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فَمَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الدِّينِ وَقَاعِدَتِهِ الْأُولَى، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا فَهُوَ كَالْجَسَدِ بِدُونِ رَأْسٍ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، وَلَا حَيَاةَ فِيهِ.
وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، فَالصَّلَاةُ هِيَ الْفُسْطَاطُ الَّتِي يَقُومُ بِهِ بِنَاءُ الدِّينِ، وَتَسْتَنِدُ عَلَيْهِ كُلُّ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ لِلْإِنْسَانِ دِينٌ بِدُونِ أَنْ يَقُومَ عَمُودُ الصَّلَاةِ، فَمَنِ اشْتَدَّ عَمُودُهُ قَوِيَ دِينُهُ، وَمَنْ ضَعُفَ عَمُودُهُ ضَعُفَ دِينُهُ، وَمَنْ سَقَطَ عَمُودُهُ سَقَطَ دِينُهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ).
ثُمَّ قَالَ: (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وَذِرْوَةُ السَّنَامِ هِيَ أَعْلَى مَا فِي الشَّيْءِ وَأَرْفَعُهُ، فَمَنْ أَقَامَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا فِي الرِّفْعَةِ لَهُ وَلِدِينِهِ.
" فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الدِّينِ شَيْءٌ أَصْلًا، وَإِذَا أَقَرَّ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ حَصَلَ لَهُ أَصْلُ الدِّينِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ، كَالْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَمُودٌ؛ فَإِذَا صَلَّى وَدَاوَمَ عَلَى الصَّلَاةِ قَوِيَ دِينُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِفْعَةٌ وَكَمَالٌ، فَإِذَا جَاهَدَ حَصَلَ لِدِينِهِ الرِّفْعَةُ".
ثُمَّ خَتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ الْجَامِعَةَ بِقَوْلِهِ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) أَيْ مَا يَكْمُلُ بِهِ وَيَتِمُّ.
قَالَ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ).
"كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا"، أَيْ: اتْرُكِ الْكَلَامَ الْمُحَرَّمَ كَالْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ شِرْكٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَذِبِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْخَوْضِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْفُحْشِ مِنَ الْقَوْلِ وَنَحْوِ ذَلِك، وَاتْرُكِ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يُفِيدُ وَفِيمَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَلَا تَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ كَالْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ أَوِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ خَيْرٌ فَفِي الصَّمْتِ السَّلَامَةِ.
وقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ!، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ -"، أَيْ: هَلْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَجْعَلُهُمْ يُصْرَعُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَيَسْقُطُونَ، "إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!"، أَيْ: إِلَّا بِسَبَبِ مَا يَحْصُدُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ كَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي الدُّنْيَا فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ؟!
فَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مَكْتُوبٌ، وَالْكَلِمَةَ مُسَجَّلَةٌ، وَالْحِسَابَ عَسِيرٌ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:
دَعُونِي أُصَارِحُ نَفْسِي وَأُصَارِحُكُمُ الْقَوْلَ:
أَكَادُ أَجْزِمُ أَنَّ جُلَّ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْخُطْبَةِ السَّابِقَةِ، هُوَ كَلَامٌ قَدْ سَمِعْنَا تَفَاصِيلَهُ مِرَارًا وَتِكْرَارًا، وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ لَيْسَ فِيمَا سَمِعْنَا وَعَلِمْنَا، وَإِنَّمَا فِيمَا طَبَّقْنَا وَعَمِلْنَا.
كَمْ مَرَّةٍ سَمِعْنَا عَنِ الصَّلَاةِ وَأَهَمِّيَتِهَا وَرُكْنِيَّتِهَا؟ لَكِنْ كَيْفَ هِيَ أَحْوَالُ صَلَوَاتِنَا؟
كَمْ مَرَّةٍ سَمِعْنَا عَنْ فَضَائِلِ صِيَامِ النَّوَافِلِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ؟ لَكِنْ هَلْ نَحْنُ فِي ذَلِكَ فِي تَقَدُّمٍ أَمْ تَأَخُّرٍ؟
كَمْ مَرَّةٍ سَمِعْنَا عَنْ خَطَرِ اللِّسَانِ؟ لَكِنْ هَلْ قَامَتِ الْحَسَاسِيَّةُ فِي قُلُوبِنَا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ؟ هَلْ نَحْنُ نَحْسُبُ كَلِمَاتِنَا؟ وَنَنْظُرُ هَلْ تُرْضِي اللَّهَ أَمْ تُسْخِطُهُ؟ هَلْ هِيَ لِلَّهِ أَمْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؟
يَقُولُ مُعَاذٌ -رضي الله عنه- والَّذِي عِشْنَا مَعَهُ هَذَا الْحَدِيثَ: " تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا، فَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا".
هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ.
لَا تَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ إِلَّا وَقَدْ عَزَمْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَنْ تُغَيِّرَ مِنْ أَحْوَالِكَ، فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْيَسِيرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَزْدَادُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَتَقْتَرِبُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَصْعَدُ فِي سُلَّمِ الرِّضْوَانِ.
وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَحْمِلُ الْعِلْمَ، وَيَكْتَنِزُ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَيَحْفَظُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَلَكِنَّهُ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَلَا تَجِدُ لِذَلِكَ الْعِلْمِ أَثَرًا، وَلَا لِتِلْكَ الْمَعَارِفِ تَطْبِيقًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَتَرْحَمَنَا.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَزِدْنَا عِلْمًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
المرفقات
1753865244_لقد سألت عن عظيم.docx
1753865244_لقد سألت عن عظيم.pdf