محبة الله
الشيخ محمد الوجيه
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد الأحد، الحمد لله الذي يتودد إلى عباده وهم معرضون، ويفتح لهم أبواب رحمته وهم غافلون، ويغمرهم بفضله وهم مذنبون، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين المتقين، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنير القلوب وتشحذ الهمم، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أقرب الخلق إلى ربه، وأحب الخلق إلى الله وأشدهم حباً له، وأدومهم طاعةً واتباعاً وتقديماً لمحبة الله على كل محبوب، صلّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد؛ فيا عباد الله، إن موضوع هذا اليوم من أعظم موضوعات الإيمان، وأجلّ مقامات الدين، بل هو روح العبودية وأصل الطاعة وسر الإخلاص، إنه مقام محبة الله جل جلاله.
ومحبة الله هي: ميل القلب التام إلى الله جل جلاله، وتعظيمه وإجلاله، وإيثار طاعته على كل محبوب، والشوق إلى لقائه.
ففي القرآن الكريم يقول الله سبحانه:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾.
وما أشدها آية! وما أعظمها بشارة! إذ يخبر الله أن أحبَّ شيءٍ في قلب المؤمن هو ربّه، وأن أشدَّ عاطفةٍ تسري في كيانه هي محبة خالقه..
والمحبة ـ عباد الله ـ ليست دعوى تُقال، ولا كلمةً تُردّد، وإنما هي حالٌ يستقر في القلب، فتشهد به الجوارح، ويصدّقه العمل، ويظهر أثره في الطاعة والخشوع والإنابة.
وقد أشار النبي ﷺ إلى جوهر هذه المحبة بقوله: “ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما…”. متفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
نعم إنها حلاوةٌ لا يعرفها إلا من امتلأ قلبه حباً، وأقبل على الله شوقاً، وترك له ما تهواه النفوس طلباً لرضاه.
وكان السلف رحمهم الله يعرفون قدر هذه المنزلة، فكانوا يقولون: "المحبةُ أجلُّ مقامات الدين، بها تُحيى القلوب، وبها تتزين الأعمال"، وقال بعضهم: "علامة المحبة موافقة الحبيب، فمن أحب الله أطاعه، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة تهز القلوب:
"في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته".
وقال أيضا: من كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرفَ، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب؛ وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يُعرفُ إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبًّا لغيره، ولا أُنْسًا به، وكلما ازداد له حبًّا ازداد له عبودية وذلًّا وخضوعًا ورِقًّا له، وحرية عن رقِّ غيره.
عباد الله، إن محبة الله تُرى في عين من يذكره، وتُسمع في صوت من يقرأ كتابه، وتُحس في قلب من صدق معه. وإن من دلائل المحبة عند المؤمن أن يتبع رسوله ﷺ، فهو الطريق إلى رضوان الله. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾.
وقد بشّر النبي ﷺ أهل المحبة بقوله:
“إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه…”. رواه مسلم عن أبي هريرة.
فيا لها من منزلة! ويا لها من كرامة! أن ينادى اسمك في السماء، وأن يكتبك الله في ديوان أحبائه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، وعلى فضله الذي لا يعد ولا يحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها المؤمنون، إن لمحبة الله آثاراً تشرق بها الحياة؛ فإذا أحبك الله ألقى في طريقك نوراً، وفي قلبك سكينة، وفي أعمالك توفيقاً. وقد جاء في الحديث القدسي: “من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به…”. أخرجه البخاري عن أبي هريرة
عباد الله، إن هذا الحديث العظيم يوضح لنا كيفية الطريق لنيل محبة الله الخاصة:
أولها أداء الفرائض كما أمر الله؛ فهي أحب ما يتقرب به العبد إليه.
ثانيها المداومة على النوافل والسنن والطاعات بعد الفرائض، حتى ينقلك الله من محبة عامة إلى محبة خاصة يرزقك فيها بصيرة تكشف الحق، وهدىً يمنعك من الزلل، وتوفيقاً يحميك من الشقاء.
وكان الحسن البصري يقول:
"إن قوماً أحبوا الله فأحبهم الله، وأطاعوه فأكرمهم الله، واشتاقوا إليه فقرّبهم الله".
وقال بعض الصالحين: "من عرف الله أحبه، ومن أحب الله أنس به، ومن أنس به لم يجد لذة في غيره".
ويا عباد الله، إن للمحبة دليلاً يختبر به العبد قلبه، وقد قال الإمام ابن تيمية:
"من ادعى محبة الله فلينظر إلى طاعته، فإنها ميزان المحبة".
فاجعلوا محبتكم لله أصدق من الكلمات، وأثبت من الدعاوى، وأعمق من العواطف العابرة. اغرسوها في صلواتكم، وفي سجودكم، وفي ذكر الليل، وفي تلاوة القرآن؛ فإن هذه الأعمال غذاءُ المحبة وماؤها الذي تنمو به.
اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد، اجعل قلوبنا عامرةً بمحبتك، مستنيرةً بطاعتك، منقادةً لأمرك. اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرّبنا إلى حبك، واجعل محبتك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا.
اللهم يا واسع الرحمة، ويا سابقَ الفضل، ويا مُقَلِّبَ القلوب، نسألك بمحبتك لأوليائك، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، أن ترزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب عملٍ يقرّبنا إلى حبك. اللهم اجعل حبك أحبّ إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ.
اللهم اجعل محبتك نوراً في صدورنا، وضياءً في وجوهنا، وقوةً في أعمالنا، وبركةً في أعمارنا، وتوفيقاً في طرقنا، وسعادةً في آخرتنا.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين إذا أحببتهم وفّقتهم، وإذا قربتهم أنعمت عليهم، وإذا هديتهم ثبتّهم، وإذا دعوتهم أجبتهم.
اللهم اجعل قلوبنا لك سليمة، وأعمالنا لك خالصة، ونياتنا لك صادقة، وألسنتنا بذكرك رطبة، وأيامنا بطاعتك عامرة.
اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، والأنس بقربك، والطمأنينة برضاك، واجعلنا ممن تقول لهم يوم القيامة: ادخلوا في عبادي، وادخلوا جنتي.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبرضاك آجالنا، وبمحبتك حياتنا، واشملنا برحمتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم وسلّم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرفقات
1763646614_DOC-20251120-WA0176..pdf