مشروع التربية
نواف الشيخي
الحمد لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، خلق كل شيءٍ فقدَّره تقديرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، سيدُ الأولين والآخرين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ }
أما بعدُ: فثَمَّةَ فِئَةٌ من الناسِ تملأُ عيونَنا، وتأنسُ بهم قلوبُنا، فِئَةٌ هي حَبّاتُ العيونِ وقُرّتُها، ورياضُ البيوتِ ومُهَجَتُها. إنهم أولادُنا وهِبَةُ الرحمنِ لنا: { يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذكورَ * أو يُزَوِّجُهُم ذُكرانًا وإناثًا ويَجعَلُ مَنْ يَشاءُ عقيمًا إنَّهُ عليمٌ قديرٌ}.
أيُّها المربُّونَ الكرامُ؛ إنَّ كلَّ قاعدةٍ تربويّةٍ تُذكَرُ اليومَ لهي عظيمةُ النفعِ، بليغةُ الأثرِ، لمن أحسنَ النيّةَ في تلقّيها، واستعانَ بالله في تطبيقِها فارعوني لها أسماعكم، أصلح الله أولادَكم.
لمّا عَلِمَ الأخيارُ أنه لا صلاحَ للأبناءِ والبناتِ إلا باللهِ، وأنه لا يَهدي قلوبَهم أحدٌ عَداه؛ صدَعوا إلى ربِّهم بالدعواتِ، وصَعَدوا بألسنتِهم إلى اللهِ فاطرِ الأرضِ والسمواتِ، فهذا الخليلُ إبراهيمُ عليه السلامُ يقولُ:{رَبِّ اجْعَلْني مُقيمَ الصلاةِ ومِن ذريَّتي رَبَّنا وتقبّلْ دعاءِ}، وزكريا عليه السلام يقولُ: {رَبِّ هَبْ لي مِن لَدُنْكَ ذريّةً طيّبةً إنَّكَ سميعُ الدعاءِ}. قُلْ كما قال الأخيارُ: {رَبَّنا هَبْ لنا مِن أزواجِنا وذريّاتِنا قُرّةَ أعينٍ واجعَلْنا للمتقينَ إمامًا} .. ما أحوجَ بناتِك وأبنائِك إلى دعواتِك الصالحةِ.
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ يكونُ أوَّلَ ما يكونُ منك، يكونُ من أقوالِك وأفعالِك، يومَ يُنشَّأُ الابنُ وتُنشَّأُ البنتُ تحتَ ظِلِّ أبٍ يخافُ اللهَ، وفي أحضانِ أمٍّ تخشى من اللهَ.. إنْ رآكَ ابنُك تخافُ من اللهِ خافَهُ، وإنْ رآكَ تَخشى من الله عظَّمَهُ وهابَهُ، إنْ رآكَ مع المصلّينَ كان من المصلّينَ، وهَلُمَّ قولًا وفعلًا.
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ يحتاجُ إلى كلماتٍ نافعاتٍ، ومواعظَ مؤثّراتٍ: {وإذْ قال لقمانُ لابنِهِ وهو يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشرِكْ باللهِ إنَّ الشركَ لظلمٌ عظيمٌ}.. فخُذوا بمجامعِ قلوبِهم إلى اللهِ، فكم من موعظةِ أبٍ ناصحٍ، وأمٍّ مشفقةٍ نَفَعَتْهم ما عاشوا أبدًا
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ عِمادُه وأساسُهُ من أمرِهم بالصلواتِ: {وَأْمُرْ أهلَكَ بالصلاةِ واصطبرْ عليها}. مُروهم بها تصلُحْ أحوالُكم قبل أحوالِهم.
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ بتعليمِهم الأخلاقَ الفاضلةَ، وتذكيرِهم بالعلومِ الشرعيّةِ المنسيّةِ، ومن اختبَرَ أولادَهُ في بعضِ الأحكامِ الفقهيّةِ الواجبةِ عليهم؛ لرَأى شيئًا من النسيانِ، ولو أنَّ المربيَ أو المربيةَ في كلِّ جلسةٍ ذاكروه عملًا واجبًا، أو علّموه أدبًا، أو نبّهُوه إلى خطأٍ، بأسلوبٍ مناسبٍ، في قليلٍ من الوقت؛ لتَشكّلَ من ذلك رصيدٌ نافعٌ للأبناء يدعو للمكارمِ ومعالي الأخلاقِ .. وإنَّ الجبلَ من حَبّاتِ الحصى.
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ بالاحتواءِ والعاطفةِ قبل التوجيهاتِ.
يا كرامُ .. لكي تكونَ قلوبُ الأبناءِ أرضًا خصبةً لغرسِ القيمِ؛ فعليكم بالملاطفةِ والاحتواءِ، التي يشعرُ فيها ولدُك أنه صديقٌ من الأصدقاءِ، عند ذلك سيفتحُ لك أولادُك قلوبَهم قبل آذانِهم، ويسمعونَ لك سماعَ رغبةٍ واختيار، لا سماعَ إكراهٍ وإجبار.
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ بالحذرِ من الدعاءِ عليهم ولو أغضبوكم؛ لا تكونوا سببًا في ضياعِهم وهلكتِهم، ففي الحديثِ الصحيحِ: (لا تَدْعوا على أولادِكم، لا تُوافِقوا من اللهِ ساعةً يُسألُ فيها عطاءٌ فيستجيبَ لكم).
صلاحُ الأبناءِ والبناتِ تَقِرّ به العيونُ في الحياةِ وفي المماتِ؛ ففي الدنيا تراه صالحًا مصلحًا بارًّا، إن أمرتَه أطاعك، وإن سكتّ بادرك وأعانك، فكان لك ذُخرا، وعلى الأمةِ ضياءً وبدرا.
:وفي المماتِ يُقِرّ عينَك في اللحودِ والظلمات، يوم تغشاك منه صالحُ الدعوات، وأنت في القبرِ وحيدا، وأنت في مضاجعِها فريدا، يذكرُكَ بدعوةٍ صالحةٍ تتنعّمُ بها روحًا وريحانا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ -وذكر منها- أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)، والولدُ في الحديث ذكرًا كان أو أنثى.
ثم بعد البعثِ، عند الله مَكرِمَةٌ أخرى لمن أصلح بناتَه، قال عليه الصلاة والسلام: (من ابتُلي من هذه البناتِ بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِترًا من النارِ) رواه البخاري، وعند الترمذي: (واتقى الله فيهنّ).
فإذا بنيتَ أولادَك وأسّستهم على ما تقدم؛ فإياك وأصدقاء السوء أن يهدموا بنيانَك في ولدك، فالتاجر إذا جمع مالا صانَه من اللصوص، وكذا المربي يصون ثمرة تربيته من لصوص الأصدقاء.. فكن قريبا من ابنك، اسأله عن جلسائه، أعنه في تكوين صداقاته، وكذلك الأم مع بناتها.
ألا وإن من أخطر الصداقات تأثيرا على التكوين الفكري والنفسي لدى الأولاد والبنات؛ متابعاتِ مواقع التواصل. فنحن اليوم أمام منظومة إعلامية هائلة لتمييع الإسلام، وتجريف الأخلاق، وتسطيح الثوابت. والأدهى أن يعلم الوالدان ذلك ثم يتسمان بالبرود التام وكأن أمرا لا يعنيهم .. فما ظهرت في أجيالنا أفكار النِسَوية، ودعاوى الحرية، وتمرّد الذرّية، إلا بإهمالنا نحن كآباء، قال ابن القيم رحمه الله: (وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالُهم).
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله وعلى آلِه ومن والاه، أمّا بعدُ:
فأوصيك يا عبدَ اللهِ: أن تأخذَ من نفسك الشعورَ بعظيمِ الأمانةِ التي في عنقِك تُجاهَ الأبناءِ، قال صلى اللهُ عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيّتِه).. فواللهِ إنَّ عصرَنا هذا تَموجُ فيه فِتَنُ الشهواتِ وفِتَنُ الشبهاتِ من حولِهم، بل وفِتَنٌ عاصفةٌ بين أيديهم في أجهزتِهم، وليس لهم عاصمٌ بعدَ اللهِ إلا أنتم.
والمسؤوليةُ يا إخواني التي سُنُسألُ عنها ليست في توفيرِ الأكلِ والشربِ فحسب؛ فهذه يشتركُ فيها البشرُ والدوابُّ جميعًا، أمّا التربيةُ فإنَّ اللهَ خصَّ بها الإنسانَ وكرّمَهُ بها عن غيرهِ.
ومهما وفّرتَ لهم من ألوانِ المآكلِ والمشاربِ؛ فلن توفّرَ لهم خيرًا ولا أكرمَ ولا أجلَّ من التربيةِ.
أن تحملَ في نفسِك الشعورَ بأنَّ هذا الولدَ سيحملُ اسمَك من بعدِك، حتى إذا ما توفّاك اللهُ وأنت في أمسِّ الحاجةِ للدعاءِ والذكرِ الحسنِ من الناسِ، وكنتَ قد خلّفتَ رجلًا شَهْمًا صالحًا ذُكرتَ بخيرٍ فيُقال: هذا فلانُ بنُ فلان، فنِعْمَ التربيةُ ورحمَ اللهُ المُربّي.
أن ترفَعَ درجتَك في الجنةِ كما في الحديثِ، فتقولُ متعجّبًا: أنَّى لي هذا؟ فيُقال: باستغفارِ ولدِك لك.
ولذلك أيها الكرامُ ، نظرًا لضيقِ مقامِ الخطبةِ عن استيفاءِ عناصرَ شتّى في موضوعِ التربيةِ حسبَ المراحلِ السنيّةِ، من طريقةِ رسمِ الأهدافِ والمنجزاتِ، وإحياءِ البيتِ بالقراءاتِ النافعاتِ، والحدِّ من الإفراطِ في الجوالاتِ والمُضيّعاتِ، وكيفَ التعاملِ مع أجهزتِهم مثلَ تقييدِ محتوى بعضِ التطبيقاتِ، وكيفَ اختيارِ الأبناءِ للمتابعينَ والمتابعاتِ، وغرسِ رقابةِ اللهِ في نفوسِهم، وتوفيرِ البديلِ المناسبِ، وغيرِها من المهمّاتِ؛ فإنَّ مشروعَ التربيةِ حتى يحقّقَ أثرًا أكبرَ لصلاحِ الأولادِ ؛ فيَتطلّبُ من المُربّي أن يجعلَ التربيةَ مشروعَ العُمرِ له في هذه الدنيا... وأولُ ما يبدأُ به - بعد الاستعانةِ باللهِ - مُصارَحةُ الزوجةِ وكبار الأبناء بهذا الأمرِ؛ ليكونوا خيرَ سندٍ ومُعينٍ، ثم الاستعانةُ بالكتبِ أو الدوراتِ المُقدَّمةِ في مجالِ تربيةِ الأبناءِ، كخُطّةٍ تربويةٍ يرسُمُها الأبوانِ لهم، ففيها الحلولُ النافعةُ في التوجيهِ بعقلٍ حكيمٍ يراعي واقعَ العصرِ، وهي متوفّرةٌ والحمدُ للهِ على شبكاتِ الإنترنتِ، أو يُسألُ أهلُ الخبرةِ عن ذلك.
كما أنه لو أرادَ أن يدخلَ مشروعًا تجاريًّا، لرأيتَهُ يسألُ التجارَ، ويقرأُ كثيرًا عن المشروعِ حتى يَغنمَ أفضلَ المكاسبِ.
أوليسَ أبناؤُنا وفَلَذاتُ أكبادِنا أكبرَ مشروعٍ في حياتِنا، وأعظمُ من الأموالِ في نفوسِنا؟
ألا فلا يَستكثِرَنَّ أحدُنا التربيةَ هذه مِن أجلِ خروجِ فتىً من صُلبِهِ يُنتفعُ به في الحياةِ والمماتِ.
ألا فلا يَستكثِرَنَّ أحدُنا التربيةَ هذه مِن أجلِ خروجِ فتىً من صُلبِهِ يُنتفعُ في الحياةِ والمماتِ.
وبنتُ العِفّةِ والحياءِ .. واللهُ المستعانُ وعليهِ التُّكْلانُ.