ملحمة البكاء

شايع بن محمد الغبيشي
1447/06/06 - 2025/11/27 23:26PM

ملحمة الحب والبكاء

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ}

عباد الله حديثنا اليوم عن قصة عجيبة عنوانها: " ملحمة البكاء" يرويها لنا أَبِو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه فيقول: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟ قَالَ: «فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ»، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟»، قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: «أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ» قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» قَالَ: ‌فَبَكَى ‌الْقَوْمُ، ‌حَتَّى ‌أَخْضَلُوا ‌لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.

وفي هذه القصة دروس وهدايات منها:

أولاً: حب الأنصار العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تأمل فرحهم العظيم بفوزهم برسول الله قسماً، تأمل إلى بكاء الفرح وهم يقولون بقلوبهم قبل ألسنتهم: "رضينا برسول الله قسماً وحظاً" قلوب تذرف الدمع قبل العيون وأفئدة تجهش بالبكاء يتقازم فحل الشعر وأرباب الأدب وأصحاب البيان عن وصف تلك الملحمة؛ التي تتحول إلى مشاهد واقعية للبكاء، فصولها دموع، وفواصلها نحيب، من قلوب لا تعرف إلا الصدق، يا له من مشهد رهيب، الناطق فيه الدموع، وعندما تنطق الدموع تتوارى كل اللغات فهي أصدق حديثاً وقيلاً وأفصح بياناً، وفي هذا المشهد أتعجب من سر هذا البكاء، هل سر هذا بكاء عتاب الحبيب؟ أم سره الفرح بالفوز برسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً وقسماً ؟

طفح السور علي حتى أنني  ***    من كثر ما قد سرني أبكاني

فلا والله ما فاز أحد مثل فوزهم، لله تلك الأسماع وهي تتلقى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ» لله تلك القلوب وهي تتلقي مشاعر الحب والوداد من خير البشر صلى الله عليه وسلم، لله تلك الأسماع والقلوب وهي تصغي إلى أدعية الحبيب: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» وإنما نالوا هذا الحب وهذه المشاعر لأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه، فيا لله ما أعظمهم! وما أعظم الدور الذي قاموا به لنصرة الإسلام! وما أعظم إنعامهم علينا! حقٌ على كل مؤمن أن يحب الأنصار ويتعرف على سيرهم وأخبارهم ويتمنى أن يحشر معهم، حقٌ على كل مؤمن أن يدافع عنهم ويذب عن أعراضهم، ويوالي من والاهم ويعادي من عاداهم.

أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله من دروس هذه القصة:

ثانياً: الوفاء العظيم من رسول الله صلى الله فها هو يعاتبهم عتاب المحب فيقول: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ» ثم يتبع ذلك بالثناء العظيم عليهم فيقول: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ» ثم يعلن اختياره لهم: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ» ثم يتبع ذلك بالدعاء لهم فيقول: « اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» حق للأنصار أن تتصدع قلوبهم وهي تسمع هذاء الوفاء العظيم وهذا الحب الكبير حق لها أن تجهش بالبكاء، إن هذه القصة ملحمة للحب، وملحمة للوفاء، وملحمة للبكاء، ودرس عظيم في فنون الحب وفنون الوفاء فصلوت ربي وسلامه عليك يا رسول الله، ورضي الله عن الأنصار وأرضاهم.

ثالثاً: علينا أن نتأسى بالأنصار في حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتهم له ودفاعهم عنه وتضحيتهم بأنفسهم وذرياتهم وأموالهم في سبيل الله جل وعلا ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علينا أن نعرض هذه القصص لذرياتنا وأسرنا ونستلهم منا الدراس والعبر، ونربيهم على حب رسول عليه الصلاة والسلام وحب صحابته رضي الله عنهم، ونعلمهم معالي الأمور ومكارم الأخلاق من التضحية والبذل والنصرة لدين الله، ونربيهم على أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من الحب والوفاء، اللهم ارزقنا حبك وحب نبيك وحب المهاجرين والأنصار واحشرنا في زمرتهم يا حي يا قيوم.

 

المرفقات

1764275164_ملحمة البكاء.docx

1764275170_ملحمة البكاء.pdf

المشاهدات 433 | التعليقات 0