منتصف العمر.. أزمة أم نهوض؟
الشيخ محمد الوجيه
1447/07/05 - 2025/12/25 14:25PM
منتصف العمر.. أزمة أم نهوض؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل في تعاقب السنين ذكراً للذاكرين، وفي كمال العقل بصيرة للمؤمنين.
أحمده سبحانه أن مَنّ علينا بالعمر لننيب، وجعل لنا في الأربعين والستين إعذارا في التوبة والإياب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل صلاح الباطن شرطاً لفلاح الظاهر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ويدلنا على صفاء القلوب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي زاد المسافر، وضوء البصيرة، وأمان الروح في مَفرَق الطرق.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
يقول الله جل وعلا في محكم تنزيله: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
تأملوا هذا النداء الرباني؛ إنه لا يتحدث عن مجرد رقم في عداد السنين، بل يتحدث عن "وقفة المحاسبة الكبرى".
إنها اللحظة التي يكتمل فيها رشد الإنسان، ليبدأ رحلة من نوع آخر؛ رحلة ليست نحو "الدنيا" لجمع الحطام وتلبية نزوات الروح، بل رحلة نحو "الفطرة" التي فطر الله الناس عليها، ونحو "الاستقامة" التي هو روح التدين.
معاشر المؤمنين:
كثيراً ما نرى في واقعنا من يبلغ الأربعين أو الخمسين أو الستين، وقد حاز من الدنيا ما حاز، وبنى من الجاه ما بنى، لكنه يعاني من "وحشة في القلب" وضيق في الصدر لا يُفسَّر.
لقد قضى شطر حياته الأول في بناء "الذات" و"صورة ظاهرية" ترضي الخلق، فلبس ثياباً من المجاملات، و لربما أغرق في بحور الغفلة والملذات.
والآن، وهو في خريف العمر، يواجهه سؤال إيماني حارق: "أين أنا من ربي؟ وأين حقيقتي من مظهري؟".
إن ما يخطئ الناس اليوم في تسميته أزمة نفسية في هذا السن، هو في حقيقته ظاهرة صحية إنها "نداء الفطرة" التي طُمست تحت ركام السنين والإيام .
في النصف الأول من العمر، ننشغل ببناء "الظاهر"، وهو أمر قد يُعذر فيه المرء طلباً للرزق وقياماً بالمسؤولية، لكن الخطر يكمن حين يستمر الإنسان في ارتداء "ثوب الغَرور والغفلة"، فيعيش لشهواته لا لآخرته، وللناس لا لربه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته». وهذا "الشعث" هو تلك الجوانب المهملة من أرواحنا؛ هو "حلم الاكتمال والرضى بالذات" التي أهملناها.
غالطنا أنفسنا لنبدو أقوياء، وحبسنا رغباتنا وآمالنا المشروعة، فصارت هذه الخفايا "وجع في الباطن" تتجلى في شكل قلق وأرق وغلظة في الطبع.
إن هذا الضيق عند البعض بعد الأربعين أو الخمسين ليس مرضاً يحتاج عقاراً، بل هو "زجر ونداء إلهي" يوقظك لتتخفف من أثقال "الغفلة المميتة". إنها لحظة {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ}؛ أي يا رب، اجمع شتات قلبي عليك، واجعل شُكري لك وأعني على النهوض في ألذ لحظات عمري المكتمل.
أيها المؤمنون:
لقد حذرنا النبي ﷺ من الغفلة في هذا السن، فقال: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً». ومعناه أن الله قطع عذرك، فلم يعد هناك وقت للمداهنة أو للعيش وفق أهواء الآخرين.
إن من لوازم النهوض في بقية العمر يقتضي منك أن تخلع "قناع الغفلة ". وأن تكون في خلوتك كما في جلوتك. أن تعترف بفقرك لله، وضعفك الإنساني.
كثيرون منا قضوا عقوداً من أعمارهم وهم "غافلون" يمثلون دور السعداء وهم من الداخل يحترقون، وفي سبيل ذلك ضيعوا حياتهم الحقيقة في "الطمأنينة بالقرب من الله".
يقول الفضيل بن عياض لرجل: "أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ". فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل: "من عرف أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، فليعد للمسألة جواباً". والجواب لا يكون إلا بـ "تجريد التوحيد" من شوائب الدنيا.
فهل لديك الشجاعة لتكون "عبدًا لله حقًا"؟ هل تجرؤ أن تقول "لا" لكل ما يسرق دينك ووقتك وروحك من عادات اجتماعية بالية وخاطئة، أو صداقات سيئة، أو علاقات محرمة، لتتدارك وتستمتع بما بقي من عمرك وتقبل على على شأنك وعبادة بصدق وصفاء؟
نعم لديك الجرأة إن فكرت في الموت والقبر والآخرة وكان الجنة أكبر همك.
اقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم؛
فاستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل تعاقبَ الأيام مَطايا للوصول، وجعل شيبَ الرؤوس نُوراً يَهدي العقول، أحمده سبحانه وهو الذي يبعثُ في ربيع الأربعين نبضاً جديداً، ويوقدُ في شتاء الستين ضياءً فريداً، فسبحان من يُحيي القلوبَ بعد مواتها بطلّ الإنابة، ويفتحُ أبوابَ السكينة لمن أدمنَ طرقَ الإجابة.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
إن الفوزَ والفلاح أن يَمُنَّ اللهُ على العبدِ بـ "يقظةٍ مبكرة"، فيعرفَ حقيقةَ نَفْسِه وهو في سن الشَّباب، وقبلَ أن يَصل كمال الأربعين.
فهنيئاً لقلوبٍ شابة لم ترهقها الغفلة، ولم تُدنسها الشهوات، بل ولدتْ مَرَّتين: مرةً حين خرجتْ للدنيا، ومرةً حين أبصرتْ طريقَ الحقِ وهي في ربيعِ العُمر.
هؤلاء هم الذين لزموا الصراطَ المستقيم حين اغتر بالناس بالأهواء، فاستثمروا فورةَ القوةِ في سجداتِ الخضوع، وصرفوا طاقةَ العمر في عبادة الله.
لقد عَرَفوا من هم، وعَرَفوا لِمَ خُلقوا، فلم يبعثروا أعمارهم في شهوات محرمة ، بل جعلوها وَقْفاً على رضا الخالق. هؤلاء الذين قال فيهم النبي ﷺ: «وشابٌ نشأ في عبادة الله»، فظللهم اللهُ بظله يومَ تذوبُ الأجسادُ تحت وهجِ الحقائق.
هنيئا لمن لم ينتظر "كمال الأربعين" ليؤوب، بل جعل من صِباهُ مِعراجاً، ومن شبابهِ محراباً، فاستقبلَ الكهولةَ بقلبٍ ساكنٍ، وبصيرةٍ نافذة، ورُوحٍ لم تذُقْ طعمَ التمزق، لأنها كانت -وما زالت- للهِ وباللهِ ومع الله.
أيها المؤمن يا بلغت الأربعين وما بعدها: إن التحول والنهوض المطلوب الذي ننشده في هذا العمر ليس "تأنبيا فقط" لما مضى، بل هو تحول روحي ونفضل في الحياة أنها حركة لاتسدراك ما بقى من العمر بإصلاح النفس يقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
إن بداية رحلة الصدق يا أخي، تبدأ من "سجدة في عتمة الليل"، تضع فيها جبهتك على الأرض، وتخلع معها كل غفلة وشهوة أثقلت روحك، وتبث لربك كل ما تأخرت فيه وأوجعك؛ تخبره عن خوفك، عن انكسارك، وتوبتك.
أيها المؤمن، لا تظن أن الأوان قد فات، فربك حيي كريم، يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً، وهو القائل في الحديث القدسي: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا».
فإذا أقبلتَ عليه بقلب منيب، كأنك ولدتَ اليوم من جديد. إنها "كيمياء التوبة" التي تقلب النحاس ذهباً، وتمحو سنوات الغفلة بدمعة صدق واحدة.
تخيل حال الفضيل بن عياض، ذلك العابد الذي قضى نصف من عمره في حال، ثم فُتح له باب الصدق حين سمع آية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، فقال بصوت يملؤه الشجن: "بلى يا رب، قد آن".
فهل آن لك يا أخي أن تتصالح مع نفسك؟ هل آن لك أن تعترف بضعفك الإنساني لتمتزج برحمة الله؟
إن العودة إلى الديار تبدأ بأن تفتح نوافذ روحك لنور اليقين، وتدرك أن كل ما أصابك من قلق وأرق في كبرك، لم يكن إلا "زجراً رحيماً" ليسوقك إلى عتبات العبودية الحقة.
كن في خلوتك باكياً، وفي جلوتك سمحاً، واجعل باطنك أفضل من ظاهرك، وسرك أطهر من علانيتك. فالمؤمن الصادق هو الذي يجمع بين هيبة الشيب ورقّة القلب، وبين حكمة السنين وشوق المحبين.
اللهم يا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اهدِ قلوبنا إليك، وأوزعنا أن نشكر نعمتك، واجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله، وصدق إيابه، وخلصت نيته. اللهم املأ فراغ أرواحنا بجمال الأنس بك، وارزقنا بصيرة نرى بها الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه.
عباد الله، اذكروا الله يذكركم، وأصلحوا ما بينكم وبين الله، يصلح الله ما بينكم وبين الناس.
واقم الصلاة
المرفقات
1766679809_منتصف العمر.. أزمة أم نهوض (1).pdf