من أحكام وآداب الحج
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
من أحكام وآداب الحج
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا . أمَّا بَعْدُ :-
فاتقوا الله وراقبوه ، فتقوى الله هي سبب للسعادة ، والفلاح في الدنيا والآخرة .
عباد الله : يستعد حجاج بيت الله الحرام هذه الأيام في هذه البلاد للتوجه إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج امتثالا لأمر ربهم عز وجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ، واستجابة لأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا " .
فيا من عقدت العزم على حج بيت الله الحرام ، عليك بإخلاص النية ، وتصحيح المقصد من الحج لله رب العالمين ، فإن الحج عبادة ، والعبادة لا تُقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى : ( وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا ) ، وأن يكون قصدك من حجك ابتغاء مرضاة الله ، وطلب ثوابه ، لا طلب مدح الناس وثنائهم . فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في حجته : " اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سُمعة " . كما أن على من أراد الحج أن يحرص على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والالتزام بهديه في أداء المناسك قدر الوُسْعِ والطاقة ، كما يجب عليه أن يتفقه في أحكام هذا الحج والطريقة الصحيحة لأداء هذا النسك العظيم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين المناسك للأمة بقوله صلى الله عليه وسلم وفعله ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " . وعليه أن يتعلم من أهل العلم ويسألهم عما أشكل عليه ، حتى يَعْبُدَ الله على بصيرة .
عباد الله : من فضل الله تعالى ورحمته بعباده ؛ أن جعل هذا الدين يسر ، فالله جل وعلا يسر لعباده ورفع الحرج عنهم ، ولم يُلْحِق الضرر والمشقة بعباده ، قال الله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } ، وقال تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾ ، وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ » . فإذا كان في الأخذ بالرخصة دفعا للمشقة ؛ أو مصلحة معتبرة شرعاً ؛ فليأخذ بالرخصة ؛ خاصة الحاج لما في الحج من مشقة . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ . فَقَالَ : ( اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ ) . فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي . قَالَ : ( ارْمِ وَلاَ حَرَجَ ) . فَمَا سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ : افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ . رواه البخاري ومسلم .
كما أن على الحاج أن يلتزم بالسكينة في أداء نسكه ؛ امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم ، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : دَفَعَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ عَرَفَة فَسَمِعَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَربًا وَصَوتًا لِلإِبِل ، فَأَشَارَ بِسَوطِهِ إِلَيهِم ، وقال : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيكُم بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ البِرَّ لَيسَ بِالإيضَاعِ » رواه البخاري ومسلم . والإيضاعِ : وهو حَمْلُ الدَّابَّةِ على الإسراعِ في السَّيرِ ، فَلَيْست طاعةُ اللهِ في سُرعةِ السَّيرِ . فأرشدَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الرِّفقِ والسَّكينةِ . وفي الحَديثِ : مَشروعيَّةُ تَنظيمِ حَرَكةِ المرورِ ، لا سيَّما عندَ الإِفاضةِ مِن عَرَفاتٍ ، وإشرافِ المَسؤولينَ عليها .
كما أن على المسلم أن يصون حجه عن كل ما يفسده أو يُنْقِصُه ، كالرَّفَثِ والفسوق والجدال وإيذاء الآخرين والتدافع ، قال الله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ : سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقولُ : ( منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ ، وَلَم يفْسُقْ ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ ) . متفقٌ عَلَيْهِ . وعلى الحاج أن يتحلى بالصبر والرفق ولين الجانب . وأن يُشْغِل وقته بالذكر والدعاء . وأن يتحلَّى بما يليق بشرف العبادة وزمانها ومكانها من آداب وأخلاق تُحَقِّقَ له ثمرات الحج وحِكَمِهِ . فالله جعل الحج للذكر والتحلي بصالح الأخلاق ؛ وتطهير القلب من الشوائب والأدران .. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرًا . أما بعد :-
فإن الحاج يجب عليه ضرورة الالتزام بالضوابط والإجراءات التي وضعتها سُلُطَات الحج للتيسير على ضيوف الرحمن ، وتسهيل أداء المناسك في أمن وسلامة ، وعلى رأسها الالتزام بإجراءات التفويج والوسائل المرتبطة بذلك تحقيقًا لمصالح الحجاج ، فهي من طاعة ولي الأمر ، وطاعة ولي الأمر هي طاعة لله ولرسوله ؛ كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن أطَاعَنِي فقَدْ أطَاعَ اللَّهَ ، ومَن عَصَانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ ، ومَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطَاعَنِي ، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصَانِي ) رواه البخاري .
كما ينبغي لمن أراد الحج الأخذُ بأسباب الوقاية والسلامة ، والالتزام بالإرشادات والتعليمات الصحية ، وأخذ التطعيمات واللقاحات الخاصة بموسم الحج ، والمحافظة على تناول الأدوية التي يستخدمها أصحاب الأمراض المزمنة ، وأكْثِرُوا من شرب الماء ، وتجنبوا الوقوف في الشمس ، فالوقت حار ، والحاج مُعَرَّض لضربات الشمس ، وتجنبوا شرب السوائل شديدة البرودة . حفظ الله الجميع .
عباد الله : نحن في أيام عشر ذي الحجة المباركة ، وَقَد خَصَّ اللَّهُ هَذِهِ الأَيَّامَ بِأُجُورٍ كَبِيرَةٍ ، وَرَتّبَ عَلَى الطَّاعَاتِ فِيهَا خَيرَاتٍ كَثِيرَةً ، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنهُ فِي غَيرِهَا ، جاء عند البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : « ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ . قالوا : يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ » . فأكثروا في هذه الأيام العظيمة من ذكره وتكبيره ، فإن ذكر الله تعالى من أفضل الأعمال .
عِبَادَ اللهِ : وفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الْمِلَّةَ ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا بِهِ النِّعْمَةَ ، وهو ركن الحج الأعظم ، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج ، معذورا كان أم غير معذور ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ ، تَتَنَزَّلُ مِنَ اللهِ تَعَالَى الرَّحَمَاتُ ، وَتُكَفَّرُ فِيهِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ السَّيِّئَاتُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ؟ » [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ] . وَإِنَّ مِمَّا يُشْرَعُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ : أَنْ يَصُومَهُ الْمُسْلِمُ غَيْرُ الْحَاجِّ ، فَإِنَّ صِيَامَهُ كَفَّارَةٌ لِسَنَتَيْنِ ، فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ » [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ] . فاغتنموا فُرَص الخير قبل فوات الأوان ، واحذروا المعاصي فإنها تَحْرِمُ المغفرة في مواسم الرحمة ، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره ، وحسن عبادته ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للأعمال الصالحة ، وأن يرزقنا الاجتهاد والجد والنشاط في اغتنام ما بقي من أيام هذه العشر المباركة .. عباد الله صلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبدالله كما أمرَكم الله بذلك فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نبينا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْغُرَرِ ، وَمَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَحْشَرِ ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين . اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا ولوالدينا ولِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، وَخُذْ بِنَواصِيهم لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُم لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُم فِي رِضَاكَ ، اللهم جازهم خيرا على ما يقدمونه من خدمة للحجاج والمعتمرين . اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ . ، اللهم اكشف عن المسلمين ما نزل بهم مِن ضُر وبلاء ، وفقر وتشريد ، وضعف وتقصير ، وقتل واقتتال ، وجنِّبنا وإيَّاهم الفتن ما ظهرَ منها وما بطن ، ووفِّق جميع ولاةَ المسلمين ونُوَّابَهم وجُندَهم لِمَا فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين وبلادهم . اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا ورغد عيشنا ، اللهم أمِّن حدودنا واحفظ جنودنا عامة والمرابطين منهم خاصة يارب العالمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
( خطبة الجمعة 3/12/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1748336449_من أحكام وآداب الحج.docx