مِنْ أَسْبَابِ اِسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً...}[الرعد 38 ]
يَقُولُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ وَالْحَضِّ عَلَيْهِ، وَتَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ، وَهُوَ تَرْكُ النِّكَاحِ وَهَذِهِ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ...]إلخ
وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسِلَّمَ: (أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) [مُتَّفَقِ عَلَيهِ]
وَنُصُوصُ الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي الزَّوَاجِ؛ كَثِيرَةٌ فِي المُحَافَظَةِ عَلَيهِ وَاسْتِمْرَارِهِ، وَعَدَمِ اللُّجُوءِ إِلَى الفِرَاقِ.
عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّهُ لَيَسُرُّ المُسْلِمَ وَيُسْعِدُهُ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ مُنَاسَبَاتِ الزَّوَاجِ؛ وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ؛ يُحْزِنُهُ كَثِيرًا مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ حَالاتِ الطَّلاقِ أَوِ الخُلْعِ.
وَلَعَلَّنَا نَتَذَاكَرُ اليَومَ شَيئَا مِنْ أَسْبَابِ اِسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ
وَاسْتِمْرَارِ العِشْرَةِ بَينَ الزَّوْجَينِ.
فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَالاِسْتِقَرَارِ بَيْنَ الزَّوجَينِ، أَنْ يَلْتَزِمَا حُدُودَ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَيَتَمَسَّكَا بِشَرْعِهِ، وَيَعْمُرَا بَيْتَهُمَا بِطَاعَتِهِ، وَيَتَعَاوَنَا عَلَيْهَا، وَيَجْتَنِبَا مَعْصِيَتَهُ، وَيَتَنَاهَيَا عَنْهَا؛ فَطَاعَةُ اللهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَمَعْصِيَتُهُ سَبَبٌ لِكُلِّ شَرِّ؛ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِالحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَالجَزَاءِ العَظِيمِ؛ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل 97]
وَمِنْ أَعْظَمِ وَأَنْفَعِ الأَسْبَابِ لاِسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ بَيْنَ الزَّوجَينِ.
أَنْ يَتَعَامَلا بالسَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ وَالسُّهُولَةِ.
وَلَئِنْ كَانَتِ السَّمَاحَةُ مَطْلُوبَةٌ بَينَ النَّاسِ فِي تَعَامُلِهِمْ مَعَ بَعْضِهِمْ؛ فِي بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَأَخْذِهِمْ وَعَطَائِهِمْ؛ فَإِنَّهَا ضَرُورةٌ بَينَ مَنْ تَطُولُ مُخَالَطَتُهُمْ، كَالأَقَارِبِ، وَالأَصْحَابِ، وَزُمَلَاءِ العَمَلِ؛ وَهِيَ بَينَ الزَّوجَينِ أَشَدُّ ضَرُورَةً.
يَعْرِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا لَهُ، وَمَا عَلَيهِ مِنَ الحُقُوقِ؛ فَيَجْتَهِدُ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيهِ، وَيَرْضَى بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ حُقُوقِهِ دُوْنَ اِسْتِقْصَاءِ.
يَصْبِرُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَتَحَمَّلُ خَطَأهُ، وَيَتَذْكُرُ مَحَاسِنَهُ فَيُقَدِّرُهَا، وَيَشْكُرُ عَلَيْهَا.
يقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسِلَّمَ: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]
وَمَعْنَى: لَا يَفْرَكْ: لَا يُبْغِضْ.
وَمَتَى تَعَامَلَ الزَّوْجَانِ بِالسَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ؛ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِمَا، وَهَنَاءِ عَيْشِهِمَا، وَدَوَامِ عِشْرَتِهِمَا.
فَإِنْ حَاسَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ، وَأَخَذَ يَتَتَبَّعُ الزَّلَّاتِ؛ فَإِنَّهُ سَيَجِدُهَا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا) [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]
مِنَ الطَّبِيعِيِّ حُصُولُ الخِلَافِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ؛ وَمَتَى وَقَعَ الخِلَافُ؛ فَلْيُعَالَجْ بِالأَيْسَرِ فَالأَيْسَرِ؛ تَجَنُّبًا لِلطَّلَاقِ، وَشَتَاتِ الأُسَرِةِ، وَضَيَاعِ الأَوْلَادِ.
وَمِنَ الخَطَأِ العَظِيمِ: الاِسْتِعْجَالُ فِي الطَّلَاقِ؛ أَوْ فِي طَلَبِهِ لأدْنَى مُشْكِلَةٍ؛ بَلْ حَتَّى لَوْ لَمْ يُرْزَقْ أَحَدُ الزَّوْجَينِ حُبَّ الآخَرِ؛ فَلْيَصْبِرْ، وَلْيَنْظُرْ فِي عَوَاقِبِ الفِرَاقِ عَلَى الرَّجُلِ وَعَلَى المَرْأَةِ، وَعلى أَوْلَادِهِمَا وَأَهْلِهِمَا، بَلْ وَالمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.
وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ حَتَّى مَعَ كُرْهِهَا خَيْرًا كَثِيرًا؛ فَقَدْ تَزُولُ الكَرَاهَةُ وَتَحُلُّ مَحَلَّهَا المَحَبَّةُ، وَقَدْ يُرْزَقُ مِنْهَا ذُرِّيَّةً صَالِحَةً، وَهَكَذَا مَا يُحَصِّلُ مِنَ الأُجُورِ العَظِيمَةِ بِصَبْرِهِ عَلَيْهَا، وَإِحْسَانِهِ لَهَا...إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الخَيْرِ الكَثِيرِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}[النساء19]
عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ إِنَّ التَّسَامُحَ لَا يَعْنِى أَنْ يَسْتَهِينَ أَحَدُ الزَّوجَينِ بِحُقُوقِ صَاحِبِهِ، وَيُقَصِّرَ فِي أَدَائِهَا، بَلْ عَلَيهِ أَنْ يَقُومَ بِهَا قَدْرَ اِسْتِطَاعَتِهِ.
وَهَكَذَا لَيْسَ مِنَ التَّسَامُحِ فِي شَيءٍ أَنْ يُقِرَّ أَحَدُ الزَّوْجَينِ الآخَرَ عَلَى المُنْكَرِ، وَيُدَاهِنَ فِي دِينِ اللهِ.
لَيسَ مِنَ السَّمَاحَةِ مَعَ الأَهْلِ وَالأَوْلادِ تَلْبِيَةُ رَغَبَاتِهِمُ، المُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللهِ، وَالمُخِلَّةِ بِالأَدَبِ.
لَيسَ مِنَ السَّمَاحَةِ تَوفِيرُ طَلَبَاتِهِمْ دُونَ النَّظَرِ فَي حِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ، أَوْ نَفْعٍ أَوْ ضَرَرٍ.
السَّمَاحَةُ شَيءٌ، وَالتَّفْرِيطُ فِي التَّرْبِيَةِ شَيءٌ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ: (وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أمَّا بَعدُ: فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم 21]
جَعَلَ اللهُ الزَّوَاجَ سَكَنًا وَأْنْسًا، وَجَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَينِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، يُحِبُّ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَيُشْفِقُ عَلَيهِ وَيَرْحَمُهُ.
وَالمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ مَعًا، أَوْ إِحْدَاهُمَا؛ مِنْ أَعْظَمِ وَأَنْفَعِ الأَسْبَابِ لاِسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.
يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: [فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ..] إلخ
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَيَجَعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[الأحزاب56 ]
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتجدون هذه الخطبة وغيرها على قناة التليجرام (احرص على ما ينفعك)
https://t.me/benefits11111/2766
المرفقات
1753918196_مِنْ أَسْبَابِ اِسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.pdf
1753918203_مِنْ أَسْبَابِ اِسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.docx