نعمة السكينة
أحمد بن علي الغامدي
أما بعد: فإن الحزنَ والقلقَ، والخَوْفَ والتَّوَتُّرَ والأَرَقَ :أَعْرَاضٌ وَأَسْقَامٌ يُصاب بها بعضُ النَّاسِ، وهَذِهِ الأَسْقَام والْعَوَارِضِ، تُظْهِرُ دوامَ حَاجَةِ الْعبْادِ لِرَبِّهِم؛ بأن يَفِيضَ عَلَيْهِم الطُمَأْنِينَةٍ ، وَأن يغمرَهم بالسَكِينَةٍ / والسكينةُ – عباد الله- هي: طُمَأْنِينَةُ القلبِ واستقرارُه عند وُرودِ البَلايا والـمِحَن، فَمهما كانت المخاوِفُ، وأسبابُ الاضطراب، ومهما فَقَدَ العبدُ من الدُّنيا أو خسِر، ومهما تألَّمَ وتوَجَّع، فإنَّ السكينةَ لا تَبْرَحُه، والطُّمأنينةَ لا تُفارقه. فيُوجِبُ له ذلك زيادةَ الإيمان، وقوَّةَ اليقين والثبات؛ قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾. وقُريء( يهدأْ قلبُه): أي: يسكن ويطمئن قلبُه. قال علقمة: (هو الرجُلُ تُصِيبُه المصِيبةُ، فيعلَمُ أنها من عندِ اللهِ؛ فَيَرضَى ويُسَلِّم). لأن الرِّضَى عن اللهِ:مِنْ أعظَمِ أسبابِ السكينة.
ولذلك يشرع للمسلم في أذكار الصباح ومساء، أن يقول: (رضيت بالله ربا) فنرضى بالله ملكا ومالكًا، وسيّدًا، ومصلحًا ، ومدبرا ،ومتوليا لأمورنا ، ومتصرفا فينا ، ونرضي بما شرع وبما قدر علينا أو قدر لنا من أرزاق وغيرها .
عباد الله :السَّكِينَةُ /مِنْهَا مَا هُوَ هِبَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُكْتَسَبٌ، يَظْفَرُ بِها المَرْءُ بِالتُّؤَدَةِ وَالتَّأَنِّي، وَالصَّبْرِ وَالتَّرَوِّي، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْم).
عباد الله:مِنْ أهمِّ مَصَادِرِ كسبِ السَّكِينَةِ: معرفةُ اللهِ بأسمائِه وصفاتِه : فمن حصل له ذلك: اطمأنَّتْ نفسُه لِعَظَمَتِه، وخشعَتْ وسكَنت لِعِزَّتِه وهَيبَتِه ولحكمتِه ولرحمتِه الواسعة ولسعةِ علمِه وعمومِ قدرته وإحاطتِه، يقول الشيخ السعدي رحمه الله: (السكينة: هي مِن نِعَمِ اللهِ العظيمة، وهي ما يَجْعَلُه اللهُ في القلوبِ في أوقاتِ الشدائدِ والزلازل، مما يُثَبِّتُها ويُسَكِّنُها؛ وتكونُ على حسبِ معرفةِ العبدِ بِرَبِّه، وثِقَتِه بِوَعْدِه).
وَمِنْ مَصَادِرِ كسبِ السَّكِينَةِ : الإقبالُ على كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ بخشوع، فهوَ مَوْرِدٌ للسكينةِ لا يَنْضَبُ، ومَصْدَرٌ للطُّمَأْنِينَةِ لا ينقضي، ففي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حديثِ الْبَرَاءِ بن عازبٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: (كانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وإلى جانِبِهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بشَطَنَيْنِ[ أي :بحبلين]، فَتَغَشَّتْهُ سَحابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمّا أصْبَحَ أتى النبيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذلكَ له فقالَ: تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ للقُرْآنِ) . قال ابنُ القيِّم: (كان شَيخُ الإسلامِ إذا اشتَدَّتْ عليه الأُمورُ: قرأَ آياتِ السكينةِ؛ وقد جَرَّبْتُ قراءةَ هذه الآياتِ عند اضطرابِ القلبِ، فرأَيتُ لها تأثيرًا عظيمًا في سُكُونِهِ وطُمَأنِينَتِه).
وَمِنْ أسباب تحصيل السَّكِينَةِ: الاجتماعُ على ذكر الله في المساجد أو البيوت أو غيرها ،قال ﷺ: (لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ ؛ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحمَةُ، ونَزَلَتْ عليهم السكينةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).
ومِنْ أَسْبَابِ تحصيلِ السَّكِينَةِ: صِدْقُ اللُّجُوءِ إلى اللهِ عز َّوجلَّ في الشَّدَائِدِ والمِحَنِ، بتحقيق التوحيد الخالص، وقولِ كلمة التوحيد، فقَد كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ بِقَوْلِهِ: (لا إلهَ إلَّا اللهُ العظيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ رَبُّ العرشِ العظيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السماوات وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ).
الخطبة الثانية :
أما بعد: فاعلموا أن المرءَ إذا وطَّد نفسَه على السَّكِينَة في علاقته بربه ومولاه، فإنه فيما سوى ذلك أحرى وأجدر، ومَنْ أراد أن يعرف حظَّه من السَّكِينَة فلينظر إلى تخلُّقِه بالسكينة في عباداته، فإن وجدها وإلَّا فثمة مفاوز بينه وبينها.
عباد الله : من المواطنِ التي يَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّحَلِّي بِالسَّكِينَةِ في العبادات :السَّكِينَةُ في المَشْيِ إلَى الصَّلاةِ قَالَ ﷺ: (إِذَا أُقيمَت الصَّلاةُ فلا تَأْتُوهَا تَسْعَونَ وأْتُوهَا تمشُونَ وَعَلَيْكُم السَّكينةُ والوقار). قال الإمام أحمد بن حنبل: (يستحب للرجل إذا أقبل إلى المسجد أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع وأن تكون عليه السكينة والوقار)
ومن المواضع التي يتأكد فيها السكينة: السَّكِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ إلى الصَّلاةِ، قالَ ﷺ: (لا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُم السَّكينةُ) . قال البزار وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية واصفا صلاته "وكان إذا كبر للإحرام بالصلاة تكاد تنخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام"
وإذا كنا – عباد الله- مأمورين بالسكينة حالَ الذهاب للصلاة وعند تكبيرة الإحرام ، ففي الصلاة من باب أولى ، وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها (اسكنوا في الصلاة) رواه مسلم في الصحيح .
ومن المواطن التي يَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّحَلِّي بِالسَّكِينَةِ: السَّكِينَةُ في الْحَجِّ والعمرة، فإنّ النَّبِيّ ﷺ لما دفع من عَرَفَةَ إلى مزدلفة، سَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا ،وَأصوْاتًا للإبلِ فأشارَ بسَوطِه إليهِمْ وقالَ: (أيُّها النَّاسُ، عليكم بالسَّكينةِ والوقار [ أي:الزموا الطُمأنينة والهدوء والرَّزَانة ] فإنَّ البرَّ ليس بالإيضاع».أي : ليس بالإسراع.
وبعدُ – عباد الله- فما أحوَجَنا إلى السكينةِ والطمأنينة والثبات في عباداتنا ، وفي أوقاتِ الفِتَنِ المُدلَهِمَّات، والخوفِ مِنَ المجهولات، والتعلُّقِ بالمادِّيَّات، وكثرةِ المُشَتِّتَات؛ فَإن فِي القلبِ وحشَةٌ لا يُزِيلُهَا إلَّا الأُنسُ بالله، وفيه قَلَقٌ لا يُسَكِّنُهُ إلَّا الفرارُ إليه، وفِيهِ حُزْنٌ لا يُذْهِبُهُ إلَّا السرورُ بمعرفَتِه جل وعلا، وفيه فاقةٌ وحاجة لا يسدُّها إلّا محبّتُه، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدقُ الإخلاص له سبحانه وتعالى .
أسأل الله تعالى أن ينزل على قلوبنا وقلوب أهلينا والمستضعفين والمسلمين أجمعين السكينة والطمأنينة والثبات إنه سميع مجيب.