وبَزَغَ الفجرُ ( في ذكرى مولده عليه السلام)

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/03/11 - 2025/09/03 04:46AM

الحمدُ للهِ الذي بعثَ نبيَّهُ محمداً عليه السَّلامُ رحمةً للعالمين، ليُخرِجَ النَّاسَ به من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم.

والصَّلاةُ والسَّلامُ على صاحبِ الخُلُقِ العظيم، والسِّراجِ المُنير، الذي جعلَ اللهُ حُبَّهُ واتِّباعَهُ مُنجِياً في يومٍ شرُّهُ مستطير، وعذابُهُ بالكافرين مُحيط.

 


أيُّها النَّاسُ أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي طريقُكُم إلى القبولِ عند الله، كما قال الله: ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقينَ﴾ [المائدة: ٢٧].

 


أمَّا بعد:

بينما كانتِ الدُّنيا تغرقُ في ظلامٍ دامسٍ، إذا بالفجرِ يَبزُغُ بمولدهِ عليه السَّلام، ثم لم تلبثِ الشَّمسُ أن تُشرِقَ ببعثته، ليعمَّ النُّورُ الأرضَ، ويُطاردَ فُلولَ الظَّلامِ، في كلِّ مكانٍ وزمان، حتى تقومَ السَّاعة.

 


كانتِ البشريَّةُ قبل بعثته عليه الصَّلاةُ والسَّلام، تعيشُ أحطَّ أدوارها، في كلِّ ميادين الحياة: العقديَّة، والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة.

فقد حَفِلَت هذه الميادينُ بألوانٍ من الفسادِ والانحراف. فعلى مستوى العقائد؛ افترستِ الخرافةُ العقولَ، وانحطَّ الإنسانُ في دَرَكاتِ الجهل، فساوى بين الخالقِ والمخلوق، وأشرَكَ مع الله غيرَه، فلم يترُكْ شيئاً إلَّا عبدَهُ من دون الله.

وعلى مستوى السِّياسة؛ فشا الظُّلمُ، وتسلَّط الولاةُ والكُبراءُ على النَّاس، وساموهم سوءَ العذاب، واتَّخَذُوهم سُخرةً ووسيلةً لجِبايةِ الأموال.

وعلى مستوى الاجتماع؛ أكَلَ القويُّ الضَّعيفَ، وفشتِ الفواحشُ والمُنكرات.

وعلى مستوى الاقتصاد؛ فشا الجَشَعُ والطَّمعُ والرِّبا والغِشُّ والاحتكار.

 


وما أبلغَ وأصدقَ جعفرَ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وهو يُدلي بشهادته على عصره أمامَ النَّجاشي، فقال: “أيُّها الملِكُ كنَّا قوماً أهلَ جاهليَّةٍ، نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجوارَ، ويأكلُ القويُّ منَّا الضَّعيفَ”.

وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام عن هذه الحقبةِ من الزَّمن: «وإنَّ اللهَ نَظَرَ إلى أهلِ الأرضِ فمَقَتَهُم عَرَبَهُم وعَجَمَهُم، إلَّا بقايا من أهلِ الكتابِ». رواه مسلم.

 


فبعثَ اللهُ نبيَّهُ بالهُدى والنُّور، واجتثَّ الحقُّ الباطلَ، فأبدلَهم اللهُ بالكُفرِ توحيداً، وبالظُّلمِ عدلاً، وبالفواحشِ عِفَّةً وطُهراً، وبالشَّتاتِ أُلفةً واجتماعاً.

فكان بذلك رحمةً من الله بَعثَها لأهلِ الأرض: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا رَحمَةً لِلعالَمينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].

 


فحريٌّ بنا تجاه هذه الرَّحمةِ المُهداة، من الرَّحيمِ الرَّحمن، أن نشكرَهُ عليها.

وشُكرُهُ عليها يكونُ بتذكُّرِها والحديثِ عنها، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣].

 


ويكونُ بمحبَّةِ هذا النَّبيِّ الكريم عليه الصَّلاةُ والسَّلام، محبَّةً تُخالطُ شَغافَ قلوبنا، وتزيدُ على محبَّتنا لأنفسِنا وآبائِنا وأمَّهاتِنا وأموالِنا وأولادِنا والنَّاسِ أجمعين. ومن لم يُحبَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلام بهذا القدر، فليس بمؤمن، كما أخبرَ بذلك عليه السَّلام بقوله: «لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه، ووالدِه، والنَّاسِ أجمعينَ». رواه البخاري.

 


ولا شكَّ أن محبَّةَ النَّبيِّ عليه السَّلام مقامٌ رفيعٌ ومنزلةٌ عظيمة، لا تتأتَّى بالكلامِ فقط، بل لابدَّ لها من بُرهانٍ يدلُّ عليها، وذلك يكونُ باتِّباعِه وطاعتِه، حتَّى لو أدَّى ذلك لبذلِ المُهَجِ والنُّفوسِ والأموال.

 


وهذا ما فعله الصَّحابةُ رضي الله عنهم، فقد أقاموا البُرهانَ الصَّادقَ على حُبِّهم له، فانسلخوا من عقائدِهم السَّابقةِ وقناعاتِهم القديمة، ليُؤمِنوا بما يقول، وترَكوا أوطانَهم التي نشؤوا فيها وأحبُّوها ولَحِقوا به، وبذلوا أموالَهم التي تعِبوا في تحصيلِها وجَمعِها لنُصرةِ دعوتِه، وضحَّوا بأنفسِهم أعزَّ ما يملِكون في سبيل حِياطته والذَّبِّ عنه. فأحبُّوا من أحبَّ، وأبغَضوا من أبغَض، وعادَوا من عادَى، وعملوا كما يَعمل.

 


فاستحقُّوا بجدارةٍ هذا الثَّناءَ الرَّبَّانيَّ عليهم: ﴿وَالَّذينَ آمَنوا وَهاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّهِ وَالَّذينَ آوَوا وَنَصَروا أُولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حَقًّا لَهُم مَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ﴾ [الأنفال: ٧٤].

 


وإليكم بعضَ هذه النَّماذجِ والقصص، لتقفوا على أعظمِ حُبٍّ حصلَ في الدُّنيا، ولِتَعلَموا كيف يكونُ الحُبُّ صدقاً وعملاً:

• عُبيدةُ بن الحارث رضي الله عنه، أحدُ من شهدَ بدراً، واستُشهِدَ فيها، وهو ثالثُ ثلاثةٍ خرجوا للمبارزةِ قبل المعركة، ومعه عليٌّ وحمزةُ رضي الله عنهما. فبارزَ شيبةَ بنَ ربيعة، فضربَهُ شيبةُ في ساقِه فقطعها، فحُمل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ووُضِعَ رأسُهُ على فخذِ رسول الله، وساقُهُ تشخبُ دماً، فجعلَ ينظرُ إلى رسولِ الله وهو يحتضرُ، ويقول: يا رسولَ الله، واللهِ إنِّي لأحقُّ بقولِ أبي طالب:

 


كَذَبتُم وَبَيتِ اللَهِ نُبزى مُحَمَّداً

وَلَمّا نُطاعِن دونَهُ وَنُناضِلِ

وَنُسلِمَهُ حَتّى نُصَرَّعَ حَولَهُ

وَنذهلَ عَن أَبنائِنا وَالحَلائلِ

وَيَنهَضَ قَومٌ بِالحَديدِ إِلَيكُمُ

نُهوضَ الرَّوايا تَحتَ ذاتِ الصَّلاصِلِ

• وهذا خُبيبُ بنُ عَدِيٍّ رضي الله عنه، بعد أن وقعَ في الأسرِ، وخرجتْ به قريشٌ تُريدُ قتلَهُ وصلبَهُ، فقيل له وهو على خشبةِ الصَّلب: أتحبُّ أن محمداً مكانَك وأنت في أهلك؟ قال: واللهِ ما أحبُّ أني في أهلي وولدي، وأنَّ محمداً تُصيبُهُ شوكة.

• ولمَّا خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لبدرٍ، وعلِمَ بلقاءِ قريش، قال: “أشيروا عليَّ أيُّها النَّاس”، وهو يقصدُ بذلك الأنصار، فقام سعدُ بنُ معاذٍ وقال: كأنَّك تُعنينا يا رسولَ الله؟ قال: نعم. فقال: يا رسولَ الله، صِلْ حَبلَ من شِئتَ، واقطَعْ حَبلَ من شِئتَ، وخُذْ من أموالِنا ما شِئتَ، ودَعْ ما شِئتَ، وما أخذتَ أحبُّ إلينا ممَّا تركتَ، واللهِ لو خُضتَ بنا هذا البحرَ لخُضناهُ معك ما تخلَّفَ منَّا رجلٌ واحد.

 


هكذا يكونُ الحُبُّ وإلَّا فلا، وما سواهُ فما هو إلَّا ادِّعاءً تنقُصُهُ الحُجَّةُ والبُرهان، ولا يُغني عنه كثيرُ الكلامِ والقصائدِ والمدائح، ولو تلوناها صباحَ مساء.

 


أقولُ قولي هذا …

 


 


الخُطبة الثانية

 


وبعد:

أيُّها النَّاس، وممَّا ابتُلِيَت به الأمَّةُ في زمانِها هذا، تحوُّلُ العباداتِ إلى طقوسٍ وشعائرَ فارغةٍ من الرُّوحِ الصَّادقة، والمعنى الصَّحيح.

 


ومن العباداتِ العظيمة، التي سُلِبَت حقيقتُها، واستحالت لما ذكرنا، محبَّةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، التي كانت عند السَّلف، تصبَغُ كلَّ حياتهم، فتعرِفُ محبَّتَهم لنبيِّهم في سلوكِهم وحديثِهم ومعتقداتِهم وتعاملِهم مع النَّاس، حتَّى إذا ما حضرَهم الموتُ فرحوا كفَرحِ بلالٍ رضي الله عنه، وقالوا بلسانِ حالهم كما قال: “غداً نلقى الأحبَّةَ، محمداً وصحبَهُ”.

 


أمَّا اليوم، فأصبحَ حُبُّ النَّبيِّ عليه السَّلام طقوساً تُؤدَّى، وأهازيجَ تُردَّد، ومدائحَ تُتلى، واحتفالاتٍ يشوبها ما يشوبها. فيرجعُ النَّاسُ منها إلى ما كانوا عليه، فلا المُذنِبُ أقلعَ عن ذنبِه، ولا القاطِعُ وصَلَ رحمَه، ولا آكلُ الحرامِ عَفَّ عن أكله، ولا الظَّالمُ كفَّ عن ظُلمِه، وهم مع كلِّ هذا امتلأت صدورُهم بأنَّهم قد أدَّوا ما عليهم تجاه حبيبِهم عليه السَّلام.

 


وفي هذه المناسبة، التي تمرُّ علينا، ويُعتَقدُ أنَّها تُمثِّل ذكرى مولدهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فإنَّني أدعو النَّاسَ وأُذكِّرُهم بمحبَّةِ النَّبيِّ عليه السَّلام واتباعِه، والفَرحِ به فهو أعظمُ نعمة. وأدعوهم ليُذَكِّروا أيضاً بهذا الحُبِّ والاتِّباع أبناءَهم وأزواجَهم وجيرانَهم وأقاربَهم وأصدقاءَهم، ولكن على غِرارِ حُبِّ أصحابِه رضي الله عنهم، الذي لم يكنْ حُبَّ يومٍ واحد، بل حُبَّ كلِّ الدَّهر، ولم يكنْ حُبًّا تشوبهُ شائبةٌ من بدعٍ ومنكراتٍ ما أنزل الله بها من سلطان.

 


ولا شكَّ أن كلَّ مسلمٍ مُحبٌّ لرسولِه، وربما يفعلُ فعلاً خطأً فيأجرُه اللهُ عليه لحُسنِ قصدِه، ولكن يجبُ علينا دوماً مُراجعةَ أنفسِنا وسلوكِنا وعباداتِنا وضبطَها بسُنَّةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلام وصحبِه الكرام، فكلُّ عملٍ لم يَعملوه فلا خيرَ فيه؛ لأنَّهم أكملُ الأمَّةِ إيماناً ومحبَّةً وعملاً.

 


وإنَّ ممَّا يَحزُّ في الخاطرِ، أن تتحوَّلَ مثلُ هذه المناسبة، من فُرصةٍ لاجتماعِ كلمةِ الأمَّة على محبَّةِ نبيِّها واتباعِ سُنَّته، كما جمعَهم اللهُ به أوَّلَ مرَّة، إلى فُرصةٍ للخلافِ والنِّزاعِ والتَّراشُق، فكلُّ فريقٍ يرمي الآخرَ ببُغضِ النَّبيِّ عليه السَّلام، وتَركِ سُنَّته وتنكُّبِ صراطِه. والواجبُ أن نترَاحمَ ونتناصَحَ، ويَدُلَّ بعضُنا بعضاً إلى الطَّريقِ القويمِ بالحِكمةِ والموعظةِ الحَسنةِ والرَّحمةِ والشَّفقة.

 


اللَّهُم ارزقنا حُبَّ نبيِّك على الوجهِ الذي يُرضيك،

ووفِّقنا لاتباعِ أثره واقتفاءِ طريقه،

واجمع شَملَ أُمَّته على سُنَّته وهديه

المرفقات

1756863956_‎⁨��وبزغ الفجر�⁩.pdf

1756905972_‎⁨المستند⁩.docx

المشاهدات 228 | التعليقات 0