وفتح قريب
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله الذي عز فارتفع، وذل كل شيء لعظمته وخضع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز وأذل وأعطى ومنع، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاهد وضحى وبذل فنعما ما صنع وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:فاتقوا الله ياأيها المؤمنون ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
بعد سنوات من العذاب والمعاناة .. وبعد سنوات من الأذى والتشريد والحصار والتجويع .. وبعد سنين عانى فيها القائد وأتباعه من الأعداء قتلا وسجنا وتضييقا وصنوفا من العذاب الجسدي والمعنوي .. ومن بعد أن استيأس القوم وقالوا : متى نصر الله يأتي النصر بعد البلاء واليسر بعد العناء فيعود القائد مع أتباعه إلى الوطن محفوفا بمعاني النصر ومحاطا بهيبة الملك في موكب مهيب ومشهد يهز القلوب ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء
ذلكم هو محمد صلى الله عليه وسلم وفي العام الثامن يدخل مكة فاتحا منتصرا بعد أن كان قد خرج منها مستخفيا بالليل ساربا بالنهار يختفي بالغار ويتوارى عن الأنظار لتتأكد حقيقة القرآن وسنة الله ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي .. ) ذلكم هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله ﷺ وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين، إلى الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً.
اقتربت جحافل الإسلام من مكة. ونجحت خطة المسلمين في الحرب النفسية التي قضت على إرادة القتال حين أعطى رسول الله ﷺ الأمان لقريش مقابل الاستسلام، وخلت شوارع مكة من الناس وفرضت حالة منع التجول ودخل جيش المسلمين مهللاً مكبراً فاتحاً منتصراً، ودخل رسول الله ﷺ من أعلى مكة واضعاً رأسه تواضعاً
وحانت الصلاة فأمر رسول الله ﷺ بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة وهكذا فتحت مكة أبوابها واستسلم سادتها وكبراؤها وعلت كلمة التوحيد في جنباتها وأعيد للبيت الحرام وللبلد الحرام أمنه وسلامه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن في الفتح الأعظم لعبراً وفي أحداثه دروساً وأثراً. لقد علمنا الفتح الأعظم أن المسلم بحكم إسلامه مطالب بأن ينصر إخوانه ويقف في صفهم في مواجهة الأعداء [وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] . وأن من مبادىء الإسلام أنه ما من امرىء مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب نصرته.
لقد جاء الفتح استجابة لصرخات حليف ، فكيف بنا ونحن نسمع صرخات إخوان لنا في الدين ونبخل في نصرتهم فلا تتحرك القلوب ولاتدمع العيون ولاتمتد يد بعطاء ولاترفع أكف بدعاء
لقد علمنا الفتح الأعظم أن العفو عند المقدرة، وأنه ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وأن المسلم المنتصر لا يزيده الانتصار إلا تواضعاً لله ورحمة لعباد الله.
لقد رأى المسلمون النبي ﷺ يتواضع لله عند دخول مكة حتى رأوه يوم ذاك ورأسه قد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجم ورقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكره.
تلك هي سمات الخلق الإسلامي الرفيع في السلم والحرب ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
علمنا الفتح الأعظم أنه إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم الأصيل الذي لا يجوز أن تتجرد منه القيادة الحكيمة الرشيدة، فإذا كان العفو يعكس صورة مشرقة من الحلم والأناة فإن الحزم يعكس صورة أخرى مضيئة من الشجاعة والإقدام.
لذا فقد أصدر القائد المظفر نبي الله ﷺ قراراً بالعفو العام وأصدر إلى جانبه قراراً بإهدار دم نفر كانوا شوكة في حلق الدعوة وحاملها.
علّمنا الفتح الأعظم أن العاقبة للمتقين وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأن الباطل مهما ظهر وانتفش فمآله الزوال والبوار [بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ]
تذكروا يوم خرج النبي ﷺ من وطنه مكة مستخفياً في بطون الشعاب والأودية مهاجراً إلى يثرب وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين.
ها هم أولاء بعد صراع مع الباطل دام أكثر من عشرين عاماً عانوا فيه من البأساء والضراء وتجرعوا آلام الغربة ومرارة العيش، ها هم أولاء وقد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال وقد كثروا بعد قلة وتقووا بعد ضعف واستقبلهم أولئك الذين أخرجوهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين، ودخل أهل مكة في دين الله أفواجاً وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين فصعد على الكعبة ينادي بأعلى صوته: الله أكبر الله أكبر ذلك الصوت الذي كان يهمس يوماً ما تحت أسواط العذاب: أحد أحد ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله والكل خاشع منصت خاضع. ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثانية لها هي الإسلام فما أحمق الإنسان وما أجهله حينما يكافح أو يجاهد في غير سبيل الإسلام.
علمنا الفتح العظيم أن دين الله منصور بنصر الله، وما كان لله أن يتخلى عن دعوته وهي حق ورحمة ونور، ومن يستطيع أن يطفىء نور الله، لقد جاء نصر الله بفتح مكة تتويجاً لبطولات وتضحيات، إنه نصر ليس وليد ساعة ولا شهر ولا عام ولكن نتاج دعوات وتضرع في بدر، وثمار دماء أريقت في أحد، وحصاد كرب وهم في الخندق وأنت تتأمل أحداث هذا الفتح الأكبر تستطيع أن تدرك تماماً قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله، إن شيئاً من ذلك لم يذهب بدداً، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدراً، ولم يتحمل المسلمون كل ما لاقوه في غزواتهم وأسفارهم لأن رياح المصادمات فاجأتهم بها ولكن كل ذلك كان جارياً وفق حساب، وكل ذلك كان يؤدي أقساطاً من ثمن الفتح والنصر وتلك هي سنة الله في عباده لا نصر بدون إسلام صحيح ولا إسلام بدون عبودية
إن الأمة وهي تتذكر فتح الله لنبيه مكة بعد جهاد مرير وكفاح طويل لهي ترتقب نصراً من الله وفتحاً قريباً فبشر المؤمنين فإن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى وإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
إن نصر الله للمسلمين قريب وإن كل نفس تقتل وكل نفس تسجن وكل نفس تشرد وتؤذى فإنما هي توقد شمعة في طريق النصر وتضع لبنة في بناء صرح الأمة المنصورة ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز
أقول هذا القول ....
الخطبة الثانية .. أما بعد:
فإن التأريخ يعيد نفسه ، ومشهد فتح مكة بعد التشريد والتقتيل يتكرر في حين ومع كل جيل ، وهاهي أرض الشام تتنفس الحرية بعد العناء وتشم رائحة الأمن بعد الخوف والجوع وفي أيام معدودات تتهاوى قوة الطغيان وتتساقط معاقله ويفر جنوده وسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء
رجال الشآم أعادوا البنودا وصفوا الأسود أسودا أسودا
أعادوا لنا خالد بن الوليد لظهر الجواد أعادوا الرشيدا
أنا يا رجال تساءلت يوما أيغدو أسود الشآم عبيدا
أتسبى النساء ويبقى الرجال يجرون قرب الجياد القيودا
وجاء الجواب وكان جواباً يسر القريب ويدني البعيدا
وأغرق دمّ الشآم الغزاة ومن أشعل النار صار وقودا
أذاقوا الطغاة كؤوس منون وفرّ التعيس شريدا طريدا
إن المسلم ليسعد ويفرح وهو يرى عرشا من عروش الطغيان قد هوى ، ونورا من الحق قد علا ، وإن المسلم الحق لينتشي زهوا وطربا وهو يرى المستضعفين المطاردين يعودون أعزة غالبين ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون
كيف لايفرح المسلم بانتصار إخوانه ممن تربطه بهم رابطة الدين وإن كان فيهم مافيهم من مظاهر التقصير والتمييع فإن راية العصيان أخف من راية الكفر والطغيان ، وكما قال شيخ الإسلام : لاينبغي أن ينهى الرجل عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لاظلمة فيه
لقد أثبتت الأحداث المفرحة حقيقة ربانية عنوانها ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) فإن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب
إن أحداث الشام ومداولة الأيام وانقلاب الموازين حتى صار المطارَد حاكما والمطارِد هائما .. إن في مثل هذا درسا في تعزيز الثقة عند المسلمين بأن الله غالب على أمره ولا مبدل لكلمات الله ولكن أكثر الناس لايعلمون ... إن المؤمن يوقن أنه مهما تكالب الأعداء فإنهم مهازيل ضعفاء أمام قوة وبأس خالق الأرض والسماء ( والله اشد باسا واشد تنكيلا ) وهذا اليقين هو الثقة التي تعصمه بإذن الله من اليأس والقنوط وتقيه من النكوص والسقوط والميزان بيد الرحمن يرفع اقواما ويضع آخرين
لقد رأينا في الأحداث الشامية كيف وصل الحقد والعداوة بالطغاة ، ورأينا صورا من الأذى والعذاب ذاقها المستضعفون من رجال ونساء وولدان .. صورا تعجز الكلمات عن وصفها وتتقرح القلوب من هولها وفضاعتها .. مشاهد تنبئك كيف يتجرد الإنسان من إنسانيته إذا تجرد من الدين وسلك سبيل المفسدين
وأما ماشاهدناه وسمعناه من صور فظيعة وحكايات في السجون أليمة فإنه يتملكنا شعور بالخجل من أنفسنا حينما نظن همومنا عظيمة ونتذمر من صعوبات الحياة بينما هناك من يعسشون تحت وطأة الألم والقهر في ظلام لايعرفون فيه الليل من النهار .. رأينا الوجوه الشاحبة ةالأجساد المنهكة والأرواح التي كسرت دون أن تهزم .. حينها فقط أدركنا كم كنا مخدوعين .. نعتبر مصاعبنا ابتلاءات ثقيلة وهي في حقيقتها رفاهية بجنب مايمرون به
نشتكي النقص والهموم ونحن ننام على سررنا في أمان ، وفي عافية ورغد .. فكم نظلم أنفسنا حينما نشكي ونشتكي دون أن نتأمل في نعم الله علينا والتي غفلنا عنها من تتابع النعم
إن ماتظنه ابتلاء وشدة هو رخاء ونعمة في مقابل ماسمعناه مما لاقاه أهل الشام في ظلمات سجون الطغاة حيث العذاب والنكال والموت في النهاية فاللهم لك الحمد على نعمك وآلائك التي تعد ولا تحصى
لقد علمتنا أحداث الشام مقدار ماننعم في في بلدنا من نعمة الحكم بالإسلام والتعامل بعدل ومن نعمة التلاحم والتآلف ، وتلك من آثار هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا فالحمد لله على نعمة الهداية
وختاما: ليعتبر كل واحد منا بهذه الأحداث الكبيرة في نفسه وأهل بيته، وليرسخ الإيمان بالله تعالى في قلبه؛ فالذي قلب الأمور في الشام في أيام قادر على كل شيء.. وعلينا أن لا نغتر بالدنيا مهما ازدانت لنا، ولا نيأس من روح الله تعالى مهما تتابعت المصائب علينا؛ فذل أيام قد أنسى حاكما حلاوة الحكم سنين، وفوز المظلومين بالنصر أنساهم مرارة السجن والذل والابتلاء، وإذا كان هذا التقلب والانتزاع قد وقع في حق الزعماء والزعامة وهي أعلى مناصب الدنيا، فهو فيما هو أقل منها أولى بالوقوع فاعتبروا ياأولي الأبصار
أسأل الله تعالى أن يعلي كلمته، وينصر أولياءه، ويعز دينه، ويظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إنه سميع قريب مجيب،
المرفقات
1734507801_وفتح قريب.doc