وقفات مع آخر خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم. (2/5/1447)
أحمد بن ناصر الطيار
الحمد لله الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيّه المختار، صلى الله عليه وعلى جميع أهل بيته وأصحابه الأخيار الأبرار، وسلم تسليما كثيرا ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: فاتقوا الله –عباد الله- ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾.
إخوة الإيمان: إن آخر خطبةٍ خطبها النبي –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو من آخر خُطَبه هذه الخطبة القصيرة البليغة، فلنستمع لها.
جاء في الصحيحين أن عقبة بن عامر –رضي الله تعالى عنه- قال: "صلى رسول الله –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على قتلى أحد, ثم صعد المنبر، قال عقبة: كالمودع للأحياء والأموات"؛ كأنه ودّع الأموات فصلى عليهم، وودّع الأحياء فخطب بهم ووعظهم، فاسمعوا هذه الخطبة البليغة العظيمة.
قال –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابِه ولنا جميعًا: «إني فَرَطُكم على الحوض» أي: سابقكم إلى الله، وجاء في الحديث الآخر: «إني فرطكم على الحوض، من مرَّ عليّ شرب, ومن شرب لم يظمأ بعدها أبدًا»([1]).
ثم أخبر النبي –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه عندما يكون عند حوضه، سيأتي أناس فيُمنعون من ورود الحوض, فيتقدم رسول الله ليعانقهم ويفرح بهم، لكن يُمنعون من السلام عليه، ويُمنعون أن يَرِدُوا حوضه –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فينادي على هؤلاء فيقول: «إني أعرفهم وهم يعرفونني»، فيقال: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
حيث انحرف هؤلاء، وابتدعوا، وخاضوا في الشهوات والملذّات، حتى أصبح همُّ الواحد منهم شهوتَه وفرجَه وبطنَه، فيقول –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي»([2]).
فإياك أخي المسلمُ أن تبدّل، وأن تترك سنةً سنّها رسول الله –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا تقل: هذه صغيرة أو يسيرة، فإنّ جميع سُنَن رسول الله –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عظيمة وكبيرة.
قال النبيّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وإني –والله- لأنظر إلى حوضي هذا الآن».
ثم قال: «وإني قد أُعطيتُ مفاتيح خزائن الأرض»، وهذا من أعظم دلائل نبوته –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلقد مات ولم تُفتح العراقُ ولا الشام، ولا غيرُها من البلدان، ولكن فتح الله على يد أصحابه والتابعين خزائنَ الأرض، ففتحوا الشام والعراق، ومصـر والسودان وشمال أفريقيا، وفتحوا الأندلس إلى أرمينيا وأذربيجان، وغيرها من البلدان, كخراسان وإيران وغيرها.
ثم قال: «إني –والله- ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي» أي: لا أخاف أن تقعوا جميعًا في الشـرك، فلا تزالُ أمةٌ على التوحيد والإيمان، «ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا، فتَهْلِكوا كما هلك من كان قبلكم»([3]).
إخوة الإيمان: نِعَمُ الله –جَلّ وَعَلَا- علينا عظيمة في هذه البلاد؛ بسط الله علينا الدنيا، وفتح لنا كنوز الأرض، وتأتينا ثمراتُ كثيرٍ من البلدان، فنحن في نعمٍ عظيمة؛ وأمن ورخاءٍ وعافية، واجتماعِ كلمة، ولا تكاد تجتمع هذه النعم في أمةٍ من الأمم لا قديمًا ولا حديثًا إلا من شاء الله.
إخوة الإيمان: لقد لخَّص اللهُ لنا حقيقة الدنيا والآخرة بقوله: ﴿وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيد﴾, ففيها نارٌ تحرق، وفيها الأغلال، وفيها الزقوم، وفيها الصديد، وفيها الآلام والأوجاع والتعب، ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾, ففيها مغفرة ورضوانٌ, لمن آمن واتقى واستقام على دين الله.
فاختر يا عبد الله، إما العذابَ الشديد، وإما المغفرةَ من الله ورضوان، وما حقيقة الدنيا؟ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور﴾، فإياك أن تغرّك الدنيا، وأن يكون همُّك أن تكسب المال, وأن تستمتع بهذه الشهوات.
نسأل الله أن لا يجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، إنّه سميعٌ قريب مجيب
**********
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المسلمين: إنّ من علامة التوفيق للإنسان: أن يُكْثر من شكر الله على نعمه عليه.
فاشكر الله يا صاحب المال، وزكِّ هذه الأموال وأنفق منها، ولا تستعملها في معصية الله.
اشكر الله يا من عافاك الله في بدنك, وأدّ ما فرض الله عليك، ولا تعصِ الله بنعمِ الله –جَلّ وَعَلَا-.
اشكر الله يا طالب العلم، فقد اصطفاك الله وعلَّمك، فاعمل بهذا العلم وزكِّه، وادعُ إلى الله –جَلّ وَعَلَا-، ولا تكنز هذا العلم فتؤاخَذ على ذلك.
اشكر الله يا حافظ القرآن، فقد منَّ عليك بحفظ كتابِ الله –جل وعلا-، فإياك أن تتركه وتهجره فتنساه، وإياك أن تترك العمل به والاستشفاء به.
اشكري الله يا أمة الله، يا من عافاكِ اللهُ وهداكِ، فالتزمي بالحجاب، واحذري من التبرج والفجور والعصيان، واستقيمي على طاعة الله حتى تكوني من الشاكرين.
اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين الذاكرين، يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
اللهم إنا نسألك أن نرد حوض رسول الله –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فنشرب منه شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم اجعلنا هداةً مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا ووليّ عهده لما تحب وترضى، اللهم اجمع بهما كلمة الإسلام والمسلمين، اللهم وفق رجال أمننا الذين يذودون عن أعراضنا وأمننا.
اللهم أدم علينا نعمك الظاهرة والباطنة، ولا تزلها عنا بتقصيرنا ولا بما فعل السفهاء منا، يا حي يا قيوم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) أخرجه مسلم (2299).
([2]) أخرجه البخاري (7050)، ومسلم (249).
([3]) أخرجه البخاري (1344)، ومسلم (2296).
المرفقات
1761215284_وقفات مع آخر خطبة خطبها النبي.pdf