27- روافد الفكر القبوري - جزء 2 من 4

ماجد بن سليمان الرسي
1447/01/22 - 2025/07/17 13:40PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطبة الماضية ذكر ثلاثة روافد من روافد الفكر القبوري في الأمة الإسلامية، والتي ينبغي العلم بها، واليوم نتكلم بما يسر الله عن ثلاثة روافد أخرى، للعلم والحذر.

***

4. عباد الله، الرافد الرابع من روافد تعظيم القبور في بعض البلاد هو تَــبنِّي بعض (علماء) تلك البلاد لهذا الفِكر والدعوة إليه، وحدِّث عن آثار فساد عقائد العلماء على البلاد والعباد ولا حرج، فزلل العلماء -بحسن نية أو سوء نية- هو الحِجاب الأكبر بين أكثر العوام وبين الفهم الصحيح لمقاصد الدين، ونصوص الكتاب والسنة وما فيهما من الدِّين والهدى، لأن الناس -في الغالب- تبعٌ لعلمائهم في الأمور الدينية، وقد حذَّر النبي (صلى الله عليه وسلم) من زلة العالم، فقد روى البـيهقي عن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إنَّ أشدَّ ما أتخوَّف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجِدال منافق بالقرآن، ودنيا تـقـطع أعناق الرجال»([1]).

كما حذر النبي (صلى الله عليه وسلم) من الأئمة المضلين، أي علماء السوء -فعن ثوبان (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إنما أخاف على أمتي الأئمة المُضِلِّين»([2]).

وقال عمر (رضي الله عنه): «يُفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجِدال منافق بالقرآن والقرآن حق، وزلة العالم»([3]).

أيها المسلمون، ومن أمثلة ذلك الانحراف عند بعض المنتسبين للعلم ما قاله الشيخ يحيى بن حمزة -كما نقل عنه الإمام المهدي في كتابه «البحر الزخار»-:

مسألة: ولا بأس بالقباب والمشاهد على الفضلاء، لاستعمال المسلمين ولم يُـنكر.

ثم تبعه الإمام المهدي في كتابه «الأزهار في فقه الأئمة الأطهار».

وقد ردَّ عليه الإمامُ الشوكاني (رحمه الله) في كتابه: «شرح الصدور في تحريم رفع القبور»

5. عباد الله، ومن عوامل بقاء الفكر القبوري العامل الخامس هو استفادة الحكام من مشائخ القبورية في تطويع الدين حسبما شاءوا لتحقيق مصالحهم الشخصية، كأعياد الميلاد وأُبهة السلطان ولِيقال إنه رجل صالح يحب الأولياء، بمقابل مادي أو بغير مقابل، فقد «كانت الصوفية في عهد الملَكية في مصر تُضفي طابَعًا دينيًّا على المناسبات الخاصة المتعلقة بالحكام كالاحتفال بعيد ميلاد الملك، وإحياء الذكريات الحزينة لوفاة مَن يموت من الأسرة الملكية، وبالمقابل تتلقى تلك الطرق من الحكام ما تتلقاه من المكافآت المادية والمعنوية.

ولهذا بُسِطت حماية رسمية على تلك الطرق الصوفية ورموزها وأوقافها، ومُهِّدت لها طرق الانتشار والتغلغل الآمِن في الأوساط العامة، ولو بدون اقتناع بتلك الطرق من الساسة»([4]).

بل قد استغل الحكام بعض علماء الصوفية القبورية لإلهاء الشعب عنهم، كما قال الباحث علي بن بخيت الزهراني حفظه الله: «وكان كثيرٌ من الملوك والحكام في ذلك الزمن يلجأون إلى عمارة تلك الأضرحة والإنفاق عليها، ليس إيمانًا بها بقدرِ ما كان إرضاءً لمشاعر الناس ومحاولةً لكسب ولائهم والعمل على إلهائهم بتلك الأضرحة التي تُعبد من دون الله (عز وجل)، واطمئنانًا على الأقل من ثوراتهم وتمرادتهم نتيجة لما كان يمارسه هؤلاء الحكام من ظلم وطغيان.

بل لقد كان ذلك علامة على صلاح وعدل مَن يفعله من الحكام والأمراء، فمَن كان منهم مُكرِمًا للأولياء -بزعمهم- يَبني الأضرحة على قبورهم، ويُــشَـيِّد القباب عليها، ويزور تُـربَـهم، ويمرغ خديه على عتباتهم؛ فهو الحاكم الصالح المحبوب عند رعيته ولو كان من أظلم الظالمين»([5]).

6. أيها المؤمنون، ومن عوامل بقاء الفكر القبوري العامل السادس وهو الاستغلال الحزبي السياسي لحشد التأييد الشعبي، فقد استغل العلمانيون والشيوعيون الطرق الصوفية (والتي من أهم مبادئها تعظيم القبور) التي خدَّرت مشاعر الناس وصرفت أنظارَهم عن مزاحمتِهم أو حتى الإنكار عليهم، وذلك باسم التوكل والإيمان بالقدَر والزُّهد وترك مباهج الحياة والانصراف عن الدنيا، فحزب «الوفد» العلماني استفاد من «الطريقة البغدادية» وشيخها سيد عفيفي البغدادي لحشد التأييد الشعبي له، وكذا استفاد من «الطريقة العفيفية» وشيخها عبد العزيز عفيفي لحشد التأييد الشعبي له أيضًا، بل بلغت المهزلة إلى حدِّ أن تولى مشيخة تلك الطريقة بعد وفاة شيخها أحد أعضاء هذا الحزب العلماني وهو أحمد الساكت([6])!

ليس العلمانيون فحسب، بل قد وجد الاشتراكيون في مصر ضَالَّتهم عند هؤلاء القُبوريين السُّذج، ولهذا لما قامت الثورة الاشتراكية، جعلوا منصب شيخ مشائخ الطرق الصوفية لا يتولاه أحد إلا بقرار من الحاكم السياسي، وليس بقرار من «المجلس الصُّوفي الأعلى» كما كان الأمر من قبل([7]).

عباد الله، وبعد صِدام الدولة المصرية مع جماعة الإخوان المسلمين عام 1954م، أدرك النظام أنه لابد من إيجاد بديل يُــقَـدَّم للناس على أنه التدين الذي تقبله الدولة، فأقدم عبد الحكيم عامر على إقالة شيخ مشايخ الطرق المنتخب (أحمد الصاوي)، وعيَّن (محمد محمد علوان) شيخ مشايخ الطريقة الخلوتية شيخًا عامًّا للطرق الصوفية، وتم هذا في إطار نظام إصلاح الطرق الصوفية الذي تولى عبد الحكيم عامر الإشراف عليه، فاستسلمت جماهير الطرقيين للمصلح الجديد (عبد الحكيم عامر)، واستكانت لتوجيهاته طوعًا أو كرهًا، خاصة بعد أن رأوا كيف فعلت الدولة بأكبر وأقوى تجمع إسلامي في مصر، وهم الإخوان.

ثم أصبح للطرق الصوفية مجلة تَصدر عن مجلسهم الأعلى، وكانت شبه ناطقة باسم الحكومة، ومُسَوِّغة لكل إجراءاتها الثورية الاشتراكية.

لقد وجد كثير من الناس في الطرق الصوفية سبيلًا إلى ممارسة التدين بطريقة مأمونة تحت المظلة الحكومية، فانتعش الوجود الصوفي الطُّرقي في تلك الحقبة بكل ما يَعنيه وما يترتب عليه من انتشار الخرافة والدجل والبدعة، التي لا يؤمِن بها الحزب الحاكم أصلًا ولا بغيرها من قيم الدين الصحيحة، ولكنهم وجدوا في الصوفية ضالتهم إلى إفراغ الإسلام من محتواه الإصلاحي الحقيقي، لتصنع منه خادمًا لأصول الاشتراكية الثورية.

ولما أثبتت الصوفية جدارتها وصدقها مع الحزب الاشتراكي؛ دفعت السلطة بحزبها السياسي الوحيد في ذلك الوقت وهو (الاتحاد الاشتراكي) لكي يستغل احتفالات الصوفية ونشاطاتها ليوزع المنشورات ويطلق الشعارات وربما الشائعات للدعاية للنظام.

وظلت السلطة مستمرة في دفع عجلة الصوفية للأمام على حساب الاتجاهات الدعوية الأخرى، حتى إنها صدَّرت رجلًا من رجالها وهو (أحمد رضوان) وأقحمته لرئاسة مشيخة الطريقة (الخلوتية) التي كانت تدعمها الحكومة أكثر من غيرها.

ولما توفي الشيخ الحكومي سنة 1967م بُني له ضريح، ونُسِجت حوله الأساطير، وأُسنِدت إليه الكرامات والخوارق والمعجزات، التي ربما لم يُسمع عنها لغيره، وربما لم يَعلم هو عنها شيئًا طيلة حياته.

وقد استمر الدعم الحكومي للطُّـرُقية بعد عهد عبد الناصر، حتى أصبحت الطرق الصوفية التي تَـقرُب من الخمسين طريقة هي النشاط الديني الوحيد التابع لرئاسة الجمهورية رأسًا، وله ميزانيته الخاصة في الدولة([8]).

بل قد استغل السياسيون الفكر القبوري لضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم، «فـرغم إعلان السياسيين العلمانيين أن لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، إلا أننا رأيناهم يدعمون القبوريين بانتهازية واضحة، باعتبارها مظهرًا من (مظاهر الدين) يمكن ضرب الصحوة الإسلامية به.

قال أحد الباحثين: «النظام الحاكم كان معنيًا بدرجة كبيرة أن يقدم نفسه في صورة المُدافع عن الإسلام في وجه جماعات (العنف والإرهاب) ودعاة (التطرف والخروج)، فالإستراتيجية التي تبنتها الحكومة لم تُقابل أفكار الجماعات الإسلامية بأفكار علمانية، ولكن كانت الخطة هي منافسة هذه الجماعات داخل مساحة الإسلام نفسها، لتمييع الموقف وسد الطريق أمام هذه الجماعات، ولذا نجد أن الخطاب الذي واجه به نظام مبارك هذه الجماعات كان خطابًا دينيًّا أيضًا يعتمد على طرح دينـي مغاير، ويجعل الصراع بين الجماعات والحكومة ليس صراعًا بين الإسلام و (اللا إسلام)، ولكنه صراعٌ على تطبيق (الإسلام الصحيح)، والذي يرى كل منهما أنه هو الذي يمثله.

على هذا الأساس خُلِـقت الظروف الملائمة لتحالف النظام مع الصوفية ضد الجماعات الإسلامية، فالنظام يلتحف بها باعتبارها طَرْحًا دينيًّا له مكانته لدى المصريين، ليُـحسن صورته أمام الرأي العام بأنه يحترم حدود الدين، والصوفية تحتمي بالنظام من جماعات الإسلام السياسية التي تهدد الصوفية بحرق وتدمير الأضرحة، وتسعى إلى تقويض أركان التصوف من منبعه، ومن هذا المنطلق استمر المسئولون في حرصهم على حضور الحفلات الصوفية المختلفة في كافة أنحاء مصر»([9]). انتهى كلامه.

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) خرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (10311)، (10313)، وقد أعله الدراقطني مرفوعًا، ورجحه موقوفًا كما في «العلل المتناهية» لابن الجوزي، (ص 139).
([2]) رواه أبو داود (4252)، والترمذي (2229)، وأحمد (5/278)، وصححه الألباني.
([3]) رواه البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (833).
([4]) من مقال: «سيف السياسة بين نصرة الحق ومظاهرة الباطل»، لعبد العزيز مصطفى، وهو منقول في كتاب «دمعة على التوحيد» (ص205- 206)، بتصرف يسير.
([5]) انظر «الانحرافات العقدية والعِلمية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر»، 296- 297، لبخيت الزهراني.
([6]) من مقال «سيف السياسة بين نصرة الحق ومظاهرة الباطل»، لعبد العزيز مصطفى، انظر كتاب «دمعة على التوحيد» (ص207).
([7]) من مقال: «سيف السياسة بين نصرة الحق ومظاهرة الباطل»، لعبد العزيز مصطفى، انظر كتاب «دمعة على التوحيد» (ص208).
([8]) بتصرف يسير من مقال «سيف السياسة بين نصرة الحق ومظاهرة الباطل»، لعبد العزيز مصطفى، انظر كتاب «دمعة على التوحيد» (ص208- 209).
([9]) قاله الباحث عمار علي حسن في كتاب «الصوفية والسياسة في مصر» (ص103- 104)، باختصار وتصرف يسير.

المرفقات

1752748828_خطبة جمعة في روافد الفكر القبوري - جزء 2 من 4.doc

1752748828_خطبة جمعة في روافد الفكر القبوري - جزء 2 من 4.pdf

المشاهدات 83 | التعليقات 0