اقتباس
فهكذا يضع الإسلام علاقة متوازنة بين الآباء والأبناء؛ فلكل على الآخر حقوق وعليه واجبات، وكما قرر الإسلام أن "رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"، قرر كذلك أن الوالد سيقف أمام الله -تعالى- مسئولًا محاسبًا مدانًا إذا قصَّر في حق أولاده...
كان أبوك سببًا في وجودك، فلا تكن أنت سببًا في شقائه بعقوقك... وكان أبوك سببًا في مطعمك وملبسك ومأواك وتعليمك وتهذيبك ودعمك، فلا تبخل عليه إذا كبر برد جميله عليك...
كان أبوك وما يزال بابًا لك إلى الجنة، فإياك أن تضيع الفرصة؛ فعن أبي عبد الرحمن السلمي: أن رجلًا أتى أبا الدرداء، فقال: إن أبي لم يزل بي حتى تزوجت، وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والدك، ولا أنا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك، غير أنك إن شئت حدثتك ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعته يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على ذلك إن شئت أو دع" فأحسب عطاء قال: فطلقها(رواه الترمذي، وابن حبان واللفظ له، وصححه الألباني).
ويروي حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال عمر طلقها، فأبيت فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أطع أباك وطلقها"، فطلقتها(رواه النسائي، والحاكم واللفظ له، وحسنه الألباني).
أما جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فيقص علينا أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي؟! فقال: "أنت ومالك لأبيك"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وإني لست أروي هذه الروايات لأحث الأولاد على تطليق زوجاتهم إذا أمرهم بذلك أباؤهم، كلا أبدًا، لا أقصد ذلك، اللهم إلا إن كان أباه كعمر بن الخطاب، ولا أقصد كذلك أن أحض الآباء أن يجتاحوا مال الأبناء، وإنما مقصدي أن حق أبيك -ومثله: حق أمك- مقدَّم على حق زوجتك وولدك، أقول هذا في عصر صارت فيه زوجة المرء أهم وأغلى عنده من أبيه وأمه! أردد هذا الكلام في زمان يُقْبِل فيه الرجل على زوجته وأولاده معتنيًا مهتمًا مراعيًا ويهمل من كانا سببًا في وجوده؛ أبوه وأمه! أؤكد على هذا الأمر في وقت يُفضِّل الرجل فيه حبه الفطري لزوجته وأولاده، على واجبه الشرعي تجاه أصله وجذره؛ تجاه أبيه وأمه!
وكم يفجع القلبَ تلك الصرخة الأبوية التي انطلقت من صدر أمية بن أبي الصلت، ذلك الأب المكلوم الذي جرحه العقوق والجحود والنكران من فلذة كبده:
غدوتك مولودًا وعلتك يافعًا *** تعل بما أحنى عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت *** لشكواك إلا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي *** طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها *** لتعلم أن الموت ضيف سينزل
فلما بلغت السن والغاية التي *** إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة *** كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي *** فعلت كما الجار المجاور يفعل
(البر والصلة لابن الجوزي).
***
وكما أن للآباء على الأولاد حق، فإن للأولاد على أبائهم حقوق، فأولها يبدأ قبل وجودهم، وهو: أن يختار لهم أمًا صالحة: "فاظفر بذات الدين، تربت يداك"(متفق عليه)، وثانيها عند ولادتهم: أن يحسن اسمه، ولقد أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نماذج للأسماء الحسنة فقال: "إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن"(رواه مسلم)، ثم حقوقهم على آبائهم بعد ذلك كثيرة كالإنفاق عليهم وتعليمهم وتأديبهم...
وروي عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا جاء إليه بابنه فقال: إن ابني هذا يعقني، فقال عمر -رضي الله تعالى عنه- للابن: أما تخاف الله في عقوق والدك، فإن من حق الوالد كذا، ومن حق الوالد كذا، فقال الابن: يا أمير المؤمنين: أما للابن على والده حق؟ قال: "نعم حقه عليه أن يستنجب أمه.. وحسن اسمه ويعلمه الكتاب"، فقال الابن، فوالله ما استنجب أمي؛ وما هي إلا سندية اشتراها بأربع مائة درهم، ولا حسن اسمي؛ سماني جعلًا ذكر الخفاش، ولا علمني من كتاب الله آية واحدة، فالتفت عمر -رضي الله تعالى عنه- إلى الأب وقال: "تقول ابني يعقني! فقد عققته قبل أن يعقك، قم عني"(تنبيه الغافلين، للسمرقندي).
***
فهكذا يضع الإسلام علاقة متوازنة بين الآباء والأبناء؛ فلكل على الآخر حقوق وعليه واجبات، وكما قرر الإسلام أن "رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، قرر كذلك أن الوالد سيقف أمام الله -تعالى- مسئولًا محاسبًا مدانًا إذا قصَّر في حق أولاده: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)[متفق عليه].
وهكذا يوقر الإسلام الآباء ويجعلهم تاجًا على رءوس أولادهم ليس عامًا أو عامين بل طوال أعمارهم حتى يلقوا ربهم... وليس كما يصنع الغرب والشرق؛ فيجعلون للأب يومًا واحدًا في العام كله، ويسمونه: "اليوم العالمي للأب"، يتذكرون فيه آباءهم بعد نسيان، ويقدمون لهم فيه هدية -إن فعلوا- بعد جحود ونكران، ويجالسونهم ساعات أو دقائق يعودون بعدها إلى النسيان والتجاهل والجحود حتى يأتي نفس اليوم من العام المقبل، فلربما عادوا إليهم إن لم يشغلهم عنهم شاغل، وكم من الأشياء هي أهم عندهم من آبائهم!
أما ديننا دين الإسلام فيقرر: أن حق الوالد لا ينقطع أبدًا حتى بعد مماته؛ فقد جاء رجل فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به من بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهودهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم الذي لا رحم لك إلا من قبلهما"(رواه ابن ماجه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وقد ضعفه غيرهما)، وقد علَّمنا القرآن الكريم أن ندعوا لهما بعد موتهما: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24].
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال أصحابه: أصلحك الله، إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودًا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه"(متفق عليه).
كما يقرر الإسلام أن الأولاد مهما فعلوا وبذلوا وتفانوا في بر والديهم فلن يوفوهم أبدًا حقهم عليهم، اللهم إلا في حالة واحدة نقلها إلينا أبو هريرة قائلًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجزي ولد والدًا، إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه"(رواه مسلم)، وأنى لنا أن نصنع ذلك!
وما ذكرنا في هذه المقدمة إلا نتفًا يسيرة حول هذا الموضوع الكبير، ونفسح المجال الآن لخطبائنا ينيرون طريق الأبناء ويعلمونهم حق آبائهم عليهم وكيفية برهم، ثم يضعون المعالم للآباء؛ كيف يربون أولادهم ليسعدوا إذا كبروا ببرهم.
التعليقات