عناصر الخطبة
1/أهمية الإحسان 2/كثرة إحسان الله إلى خلقه 3/من أهم أنواع الإحسان المطلوبة من المسلم 4/ثمرات الإحسان وفوائده 5/عطايا وفضائل للمحسنين.اقتباس
وكل ما تراه في الوجود من إتقان الصُّنع، وإبداع الخَلق، وعظمة الخلائق، وما تراه من رِزْق المخلوقات، والإحسان النازل من السماء، فهو أثرٌ من آثار إحسان الله لعباده، ولو عَبَد العِبادُ ربهم كل عمرهم، ما جازوه على أقل إحسانه، ولكنه سبحانه متفضلٌ وشكور...
الخُطْبَة الأُولَى:
صفة يحمدها الناس، وخلة يعظم المتصف بها، أكثر ربنا مِن ذِكْرها في القرآن بما يقرب من مائتي موضع، وأثنى سبحانه على أهلها وأخبر أنه يحب من تحلى بها.
الإحسان: فعل الحسن، وضده الإساءة، والحسن كل ما مدح فاعله، سواء في علاقة العبد مع ربه، أو مع خلقه.
قال ابن القيم: "ومِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين: منزلة الإحْسَان؛ وهي لبُّ الإيمان وروحه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعها منطوية فيها، وكلُّ ما قيل مِن أوَّل الكتاب إلى هاهنا فهو مِن الإحْسَان".
وحين يذكر الإحسان فإن من صفات ربنا الإحسان، وإحسانه على العباد شامل في كل وجه؛ فهو المنعم على الخلق (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا)[الطلاق: 11]، (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[القصص: 77]، وفي الحديث: "إن الله محسن يحب الإحسان".
وهو -سبحانه- المتقن المُحكِم، أحسن خلق الأشياء وأتقنها؛ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50]، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)[غافر: 64].
وكل ما تراه في الوجود من إتقان الصُّنع، وإبداع الخَلق، وعظمة الخلائق، وما تراه من رِزْق المخلوقات، والإحسان النازل من السماء، فهو أثرٌ من آثار إحسان الله لعباده، ولو عَبَد العِبادُ ربهم كل عمرهم، ما جازوه على أقل إحسانه، ولكنه سبحانه متفضلٌ وشكور.
عباد الله: وأما إحسانُ الخلق فمجالاته لا تُحْصَر، والمُوفَّق من العباد مَن تحرَّاها وأكثر منها، ليكون متَّصفاً بصفة مَن يُحبّهم ربه، فالله مُحْسِن يحب المحسنين، وليكون ممتثلاً أمر خالقه فالله (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النحل: 90].
ورحمته -سبحانه- قريب من المحسنين، وفي ذلك قال ابن القيم: "مفتاح حصول الرَّحمة: الإحْسَان في عبادة الخالق، والسَّعي في نفع عبيده".
فأعظم الإحسان أن تُحْسِن في عبادة ربك، بأن تَعبده كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فتتحرى المراقبة له -سبحانه- في كلّ عمل، وتسعى إلى إتقان أعمالك كأنما تراه، فإن لم يكن فإنك تعمل مستشعراً اطلاعه عليك.
متى ما حقّق العبد هذا صار بينه وبين المعاصي نفرة؛ لأنه يستشعر اطلاع الله، وذلك إنما يتحقق إذا استولى على القلب ذِكْر الله ومحبته وخوفه ورجاؤه، بحيث يصير كأنَّه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلاً عن مواقعتها.
عباد الله: والإحسان كذلك مأمور في حق الوالدين، ففي أربع آيات من القرآن؛ قال ربنا: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[البقرة: 83]، فأمر –سبحانه- بالإحسان إليهما في صحبته إياهما أيام حياتهما، والبر بهما في حياتهما وبعد مماتهما.
فأحق الناس بالإحسان بعد الخالق المنان هما الوالدان، فلذا قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره يشكرهما، فقال: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)[لقمان: 14]؛ فتَحَرَّ -يا مؤمن- الإحسان لوالديك بالقول والخطاب، وبالفعل وبذل المعروف، واعلم أنك إنما تحسن لنفسك بِذَلِك، وبقدر ما تَذِلّ لهما وتحسن، بقدر ما ترتفع عند الله وعند خلقه.
يا كرام: والإحسان إلى الجيران أمر به نبينا -عليه السلام-، وأكد فيه فقال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره"، وإكرام الجار يكون بالبِشْر في وجهه، وكفّ الأذى عنه، وتحمُّل ما يصدر منه، وغير ذلك من الإكرام، وتذكر "والله لا يؤمن.... من لا يأمن جاره بوائقه".
والإحسان كذلك يكون للزوجة بامتثال قوله -سبحانه-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة: 237]، وتلك جملة تحتوي عدم نسيان الإحسان، واغتفار القصور الحاصل، والتغاضي عن الزلات، فلن يجد الزوج زوجاً كاملة، وإنما هو التغاضي، وبذل الإحسان، وإمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان، وفي الحديث "وخيركم خيركم لنسائهم".
والإحسان إلى عموم الناس، بالقول الحسن (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83]، وحتى وإن أساءوا فأحسن، فبإحسانك تردم هوة الخلاف وتطوي صفحة الخصام؛ (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)[الإسراء: 53]، وكم من خصومة وقعت بسبب إساءة قولٍ كان مَن وراءها الشيطان نزغ بينهم، والمُوفَّق هو مَن أحسن القول والخطاب وألانه وأحسن الفعل والتعامل وعن الأذى صانه.
إن كنتَ تطلبُ رتبةَ الأشرافِ *** فعليك بالإحسانِ والإنصافِ
وإذا اعتدى خِلٌّ عليكَ فخلِّهِ *** والدَّهرَ فهو له مكافٍ كافِ
عباد الله: والمصلح في الناس يُطلَبُ في حقِّه الإحسان في دعوته، إذا كان الله أمر نبياً من أشرف الأنبياء عند مقابلة أكبر عدو وهو فرعون أن يقولا له قولاً ليّناً، فما أحرى الداعية وهو يدعو إلى إحسان القول وإلانته، علَّ القلوب أن تقبل، والنفوس أن تُقبِل، والله الموفق الهادي.
والإحسان مطلب كذا حتى مع البهائم، في إطعامها، وعدم إشقائها بالحمل عليها فوق طاقتها، وأن لا يحد الشفرة أمامها، وحتى إن قتلها فأحسن في ذلك، وفي الصحيح: "إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة".
ولقد عُذِّبَت امرأة بسبب هرة حبستها ولم تطعمها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فما أعظم هذا الدين!
في البيع والشراء -يا موفق- أحْسِن ليبارك لك، بأن تكون سمحاً في بيعك وسمحاً في شرائك، صدوقاً في عرض سلعتك، متسامحاً مع صاحبك، إن طلب مهلة أمهلت، أو إقالة أقلت، متحرياً في ذلك دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لك بالرحمة: "رحم الله امرأً سمحاً إذا باع وإذا اشترى"، وطالباً بركة بيعك "فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما"، وهذا هو الإحسان يا طالب الإحسان، اللهم وفِّقنا له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: حين يطلب المرء انشراح الصدر فإن الإحسان إلى الناس من أوسع أبوابه، وأيسر سُبله، وفي ذلك يقول ابن القيم: "إنَّ الكريم المحسن أشرحُ النَّاس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق النَّاس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًّا وغمًّا".
يا كرام: وبالإحسان تُطفَأ نار الحاسد والباغي والمؤذي، فكلَّما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحةً، وعليه شفقةً، حتى يتحقق لك قول ربك: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم)[فصلت: 34- 35].
ويكفي المحسن حادياً وله مرغباً أن المحسن -سبحانه- يجزي على الإحسان إحساناً، وفي التنزيل: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60]؛ وأنه يرضى حالهم ومن فضله يرضيهم (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[التوبة: 100]، وأنه يحبهم (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134]وهو معهم، ولا يضيع أجرهم (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود: 115]، ورحمته منهم قريبة (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56].
وأعظم الكرامات لهم، أنهم إن أحسنوا أعطاهم الحسنى وزادهم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس: 26]؛ والزيادة: النظر إلى وجه الله -عز وجل-، فهنياً للمحسنين هذه العطايا والفضائل!
وبعد: فمُوفَّق مَن تحرى الإحسان مع ربه، فأخلص له أعماله، وراقبه في كل أموره وأحواله. ثم انطلق محسناً مع خلقه، باغياً رضاه لا قاصداً وجوه الناس، ولئن كان الإحسان صعباً في مبادئه، حين تأطر النفس عليه، وربما كان لمن خاصمت وعاديت، إلا أنه حلو بعد ذلك، فالعاقبة كرامة وسعادة.
واللهِ ما حُلِّي الأنامُ بحليةٍ *** أبهى مِن الإحْسَانِ والإنصافِ
فلسوفَ يلقَى في القيامةِ فِعْلَه *** ما كان مِن كدرٍ أتاه وصافي
اللهم هيئ لنا الإحسان، وأحسن إلينا يا ذا الجلال والإكرام.
التعليقات