مأساتي مع التقليد (الجزء الأول)

محمود الفقي

2025-10-26 - 1447/05/04
التصنيفات: تجارب

اقتباس

وهنا أدرك الشيخ مسعود السبب الخطير لما يقع فيه ذلك الخطيب من أخطاء قاتلة بداية من سوء اختيار الموضوع، مرورًا بالتكلم بما لا يناسب الجمهور من كلمات وأساليب، وليس انتهاءً بحنجرته التي...

يا لها من سنين مرت على "الشيخ مسعود" -ذلك الخطيب المفوه-، وهو يعلِّم الناس ويعظهم ويوجههم ويخطب بهم الجمعة ويصلي بهم... لكن ما له اليوم غير مستقر على منبره! ما له اليوم يتتعتع في كلماته، ما له يتوقف كل حين لالتقاط أنفاسه!... إن مظاهر التعب والإرهاق لتظهر عليه في كل خلجة من خلجاته.

 

وفجأة مال الشيخ مسعود على جانب المنبر، حاول أن يتمسك بالمنبر الخشبي لئلا يسقط فلم يستطع، قام إليه المصلون مسرعين حملوه وحالته يرثى لها، أنفاسه متتابعة متلاحقة وصدره يعلو ويخفض، ذهبوا به إلى المشفى، حيث قدموا له هناك بعض الإنعاشات العاجلة، وحين استقرت حالته شيئًا ما تقدم منه أحد الأطباء قائلًا له: "أنت في حاجة إلى راحة طويلة، فلا تغادر الفراش شهرًا على الأقل".

 

وعندها سُقِط في يده؛ فأنى له الراحة وهو الخطيب والداعية المتنقل ما بين مسجد ومسجد ودرس وخطبة وموعظة ومحاضرة... لكنهم عادوا به إلى منزله وأخذوا عليه أشد العهود أن يرتاح كما أشار عليه الطبيب، ومكث شيخنا في بيته أسبوعًا يتقلب على فراش المرض، مر الأسبوع على الشيخ كأنه شهر، إلى أن كان يوم الجمعة... هل يحاول أن يصعد منبره ليخطب الجمعة؟! لا، إنه ما يزال يشعر بالضعف والمرض والإعياء، إذًا فليصل الجمعة مأمومًا في أقرب المساجد إليه.

 

نزل الشيخ مسعود من بيته بخطوات بطيئة متثاقلة، قاصدًا أقرب المساجد لمنزله، دخل المسجد مستندًا على عصاه، وصلى تحية المسجد قاعدًا، ثم جلس في الصف الأول منتظرًا أذان الجمعة، وتمر الدقائق وعينا الشيخ مسعود منصبتان على حجرة خطيب المسجد، متشوقًا أن يراه ويستمع إلى كلماته؛ فإنه منذ زمان بعيد لم يصل الجمعة مأمومًا.

 

ويخرج الخطيب في شكل مهيب وملابس فخمة وخطوات واثقة، فصعد المنبر وبدأ خطبته، فحمد الله وأثنى عليه بكثير من المحامد؛ لكن لفت انتباه الشيخ مسعود أنها نفس مقدمة خطب الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله-، بنفس جملها: "يا حماة الإسلام وحراس العقيدة"، والغريب أنه -أيضًا- يحاول تقليد صوت الشيخ وأسلوبه، لكن خانته نَفَسُه حين فعل ذلك؛ فإنه لم يؤت من ضخامة الصوت وقوته ما يمكنه من محاكاة أداء الشيخ، ورغم ذلك فقد ظل يحاول ويكابد حتى أنهى المقدمة المذكورة كاملة بحذافيرها؛ لكنها خرجت منه مسخًا مشوهة!

 

وما أن بدأ خطبته حتى قال: "معاشر المسلمين والمسلمات"، وتعجب الشيخ مسعود؛ فهو يعلم يقينًا أنه لا مكان للنساء في هذا المسجد بل كامل مساحته للرجال؛ فمن هن "المسلمات" اللاتي يخاطبهن الخطيب!... اختلس الشيخ مسعود النظر إلى ثوبه فلعله نسي فارتدى جلباب امرأته وهو ذاهب إلى المسجد فحسبه الخطيب منهن! لكنه تأكد أنه لم يفعل.

 

أقول: بدأ الخطيب خطبته والشيخ مسعود لا يشك أنه سيتكلم عن ذلك الحدث المزلزل المدوي؛ ذلك أن انتحاريًا فجَّرَ نفسه وسط المسلمين المسالمين الآمنين... أم تراه يتحدث عن ذلك البلد الإسلامي الشقيق الذي يتعرض للقتل والتدمير على يد عدو مجرم متغطرس... أم تراه يتناول ظاهرة الغش والخداع التي استشرت في الحي الذي يقع فيه مسجده؛ فالناس تعاني وتتشاكى حول مسجده من غش التجار والصُنَّاع وغيرهم... وتساءل الشيخ مسعود: هل يستطيع الخطيب اليوم أن يجمع بين تلك الأحداث جميعها فيتكلم عن أهمها في الخطبة الأولى ثم يعرج على الآخرين في الخطبة الثانية؟!

 

لكن تفكيره وظنه كله قد خاب حين نطق الخطيب فقال: "أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن أحكام الرق وأحوال العبيد والإماء".. تعجب شيخنا أشد العجب، وتملَّكه الذهول؛ أي عبيد وأي إماء؟! أيوجد في عصرنا هذا سادة وعبيدًا؟!.. وماذا يهم هؤلاء البسطاء في هذا المسجد الصغير وما يستفيدون من مثل هذا الموضوع؟! ولئن جاز أن يُطرح مثل هذا المبحث في محاضرة أكاديمية أمام متخصصين، فإنه لا يصح أبدًا أن يُعرض على أهل هذا المسجد الذي أغلبه من الأميين؟!

 

وفاض بنفسه طوفان من الأسى والحزن على هذا الخطيب الذي انفصل عن قضايا أمته وعن واقع مجتمعه، وبدأ يساءل نفسه أليس من التكليف الشرعي والمجتمعي أن يطابق كلام الخطيب مقتضى حال المستمعين؟! أما أدرك أنه يضيِّع تلك الشعيرة العظيمة والفريضة المحكمة والفرصة السانحة لتعليم الناس فيما لا ينفعهم بشيء؟! أما درى ذلك الخطيب أنه بانفصاله عن واقع أمته قد جنى على من جاء آملًا منه الهدى والعلم والتوجيه؟!

 

ولقد هَمَّ الشيخ مسعود أن يذهب إلى ذلك الخطيب في غرفته فينصحه ويوجِّهه، لكن جسده المتعب المكدود لم يستجب له، فخشي أن تخونه صحته وتخذله، فأرجأ ذلك إلى الجمعة القادمة لعله يكون قد استرد عافيته، ومن يدري؛ لعلها غفلة اعترت ذلك الخطيب اليوم، يفيق منها في الجمعة القادمة... ومضى شيخنا مسعود وهو يردد تلك الكلمة كأنه يهدئ بها نفسه ويُصبِّر بها قلبه: من يدري؟!

 

وما أسرع ما تكر الأيام والليالي؛ فها هو الشيخ مسعود يخطو إلى المسجد الموعود متكأً على عصاه التي لا تكاد تحمله ليؤدي فريضة الجمعة، ثم لينظر ما يفعل الخطيب اليوم وما يقول! مشى والأمطار تهطل وتغرق ثيابه وتملأ الفجوات في الأرض من حوله، لكنه يلبي نداء الله ويؤدي فريضته... جلس الشيخ مسعود بملابسه المبللة في وسط المسجد وكله أمل أن يصلح الخطيب بعض ما أفسد في الجمعة الماضية، وأن "يُكَفِّر عن خطيئته" السالفة! فالأحداث ما تزال في أوجها حامية دامية والقلوب منها واجفة.

 

وتكلم الخطيب فسرد نفس مقدمة الجمعة السابقة مقلِّدًا الشيخ كشك، وأخفق نفس الإخفاق في محاكاتها!... وكانت هذه هي أولى "الخلل"، ولما قال: "أما بعد" قال بعدها: "نتناول اليوم موضوعًا مهمًا وخطيرًا وعاجلًا يمس دين الأمة وكرامتها"، ثم سكت قليلًا، فاستبشر الشيخ مسعود وقال: أخيرًا سيلتحم بواقع أمته!.. ثم نطق الخطيب -وليته ما نطق-؛ لقد نطق قائلًا: "سيكون كلامنا اليوم عن التيمم..."، وما أن قال الخطيب ذلك إلا وخرج الشيخ مسعود عن شعوره، ودارت به الدنيا، وكاد أن ينفجر صارخًا غيظًا وكمدًا؛ إن صنابير المياه في كل مكان، وفي هذا المسجد منها ما يزيد عن الخمسين! وإن الأمطار ما زالت تهطل بغزارة فوق المسجد وملابس من يجلسون أمامه ما زالت مبتلة منها! ولئن انقطعت المياه وجفت الأمطار فإن هناك عدة خزانات للمياه على سقف المسجد! ولئن نقذت الخزانات فهناك المياه الجوفية الغزيرة التي تخرج بالمعدات الكهربائية! ولئن نفدت المياه الجوفية فبين هذا المسجد وبين شاطئ النهر خطوات قليلة!

 

ولو كان هذا المسجد في صحراء لما لمناه.. ولو تناول هذا الموضوع في درس أو محاضرة لأيدناه.. ولو خصص له الخطبة الثانية وجعل الأولى لما يهم مجتمعه ما راجعناه.. لكن أن يتجاهل كل الأحداث من حوله، ويهمل ما يتطلع الناس إلى معرفة حكمه وكيفية التصرف الشرعي فيه، فهذا ما لا قرار معه!!

 

ولما انقضت الصلاة فوجئ الشيخ مسعود بجيران له من حوله، فخاطبه أحدهم قائلًا: أتدري يا شيخنا أنني سمعت خطيبًا آخر يتكلم عن الحجاب الذي يظهر الوجه والكفين في مجتمع يرتدي نساؤه كلهن النقاب وغطاء الوجه!.. وقال الثاني: أما أنا فأعرف خطيبًا يرفع صوته جدًا في مسجد صغير تحت أحد المنازل لا تتجاوز مساحته ستين مترًا؛ لأنه سمع خطيبه المفضل يصنع ذلك لكن في مسجد تزيد مساحته على ألف متر!.. وقال الثالث: أما أنا فهربت من ذلك الخطيب الذي يخاطب البسطاء أمثالي بخطاب متقعر لا يفهمه إلا المثقفون!.. ونطق الرابع قائلًا: وما رأيكم في خطيب كان يتحدث عن ضرورة تنظيم النسل وخطورة مشكلة الانفجار السكاني في مسجد ملحق بمستشفى لعلاج العقم!.. أما الخامس فقال: أما أنا فحضرت لخطيب تكلم عن "البناء العشوائي" في أرقى أحياء المدينة وأشدها تنظيمًا!..

 

وقال أحدهم: ولما تذهبون بعيدًا؛ أتدري يا شيخ مسعود أن الخطبة التي سمعناها الآن قد سمعتُها بحذافيرها عبر الانترنت من الشيخ المشهور فلان، والذي يعيش في الصحراء، وعلَّق أحدهم قائلًا: ليست هذه الخطبة فقط، بل جميع خطب هذا الخطيب إذا بحثت عنها وجدتها بحذافيرها منقولة من الشبكة العنكبوتية!

 

وهنا أدرك الشيخ مسعود السبب الخطير لما يقع فيه ذلك الخطيب من أخطاء قاتلة بداية من سوء اختيار الموضوع، مرورًا بالتكلم بما لا يناسب الجمهور من كلمات وأساليب، وليس انتهاءً بحنجرته التي تعجز أحيانًا عن فعل ما يريد؛ إن هذا الخطيب غارق حتى أذنيه في: "مأساة التقليد".

 

وعندها تحامل الشيخ مسعود على نفسه، وخطا خطوات نحو غرفة الخطيب ليناصحه سرًا، إن لم تخذله صحته ولم يغلبه مرضه، طرق الشيخ طرقات على غرفة الخطيب وانتظره ليأذن له بالدخول...

 

لكن لعله لن يأذن له بالدخول إلا حين يحين لقاؤنا القادم مع الجزء الثاني من هذا المقال، فألقاكم هناك -إن قدَّر الله تعالى لقاءً وبقاءً-.

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life