مثلان لحقيقة الدنيا ومن يعيش فيها

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2025-10-05 - 1447/04/13
عناصر الخطبة
1/ مثلان ضربهما رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/بيان حقيقة الدنيا 3/رحلة الناس في الدنيا 4/اختلاف مسالك الناس في الدنيا 5/الدنيا مزرعة للآخرة 6/ ضرر الدنيا على المتهافتين عليها.

اقتباس

طغى وبغى واتبع الهوى وأعرض عن الهدى، فأهمل في أداء الواجب المفروض عليه ووقع في الحرام وجمع الحطام، فمال إلى المادة وأحلّها من نفسه المكان الأسمى، وقام الشح البغيض مقام البذل والإحسان، أما عَبْر الزمان فهو عنها في شغل شاغل أعمته الشهوة عن الاتعاظ....

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله العلي القدير أحمده -سبحانه- له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه

 

أما بعد، فيا عباد الله: مثلان ضربهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جدير أن تعيهما القلوب وتنتفع بهما، المثل الأول: بيان حقيقة الدنيا حين تبدو زاهية خلابة فاتنة.

 

 والمثل الثاني: بيان حقيقة من يعيش فيها وأن زمنه محدود ثم يرتحل عنها، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون".

 

 وصف الدنيا بالبهجة والخضرة، ولها الأثر في النفوس؛ فتأنس بهما وتكدح للحصول عليهما والاستمتاع بهما، ويختلف الناس في الانصراف إلى الدنيا.

 

فمنهم مَن ينصرف إليها بقدر، ويستمتع بها بحذر، وذلك هو الصنف الناجي، الذي لم تشغله البهجة الحاضرة والخضرة العاجلة عن بهجة الآخرة التي هي أكثر إمتاعًا وأطول أمدًا، وأرفع غاية؛ فلقد وضع هذا الصنف الآخرة نصب عينيه، فيسعى إليها يتخذ من عمره المحدود وسيلة إليها يزرع خيرًا ليحصد ثمارًا طيبة، وليكون له بها العوض عن متعة الدنيا وزخرفها مؤملاً تحقيق وعد الله؛ حيث يقول: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)[سورة الكهف: 30-31].

 

 كان لهذا الصنف مجال واسع وسعي حثيث في أداء الفرائض واجتهاد في الإتيان بالنوافل وفضائل الأعمال، وبذل البر والإحسان، وإحجام عن انتهاك حرمات الله خوفًا من الله واشتغل عن فضول الكلام بالذكر يزداد إيمانًا إذا تُليت عليه الآيات، ويعتمد في كلّ الأمور على الله يَعتبر بالعِبَر ويتَّعظ، فالدنيا له خير مَعْبَر يُوصّله إلى رضوان الله.

 

 وصنف آخر: طغى وبغى واتبع الهوى وأعرض عن الهدى، فأهمل في أداء الواجب المفروض عليه ووقع في الحرام وجمع الحطام، فمال إلى المادة وأحلها من نفسه المكان الأسمى، وقام الشح البغيض مقام البذل والإحسان، أما عَبْر الزمان فهو عنها في شغل شاغل أعمته الشهوة عن الاتعاظ.

 

 هذا الصنف -يا عباد الله- ممن استهوته خضرة الدنيا وزهرتها فآثرها على الآخرة، فهو ممن ذم الله صنيعه وتوعده بقوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)[سورة التكاثر: 1-4].

 

 فمن كان سعيه للآخرة ولم يشغله شاغل عنها من تجارة أو صناعة أو وظيفة أو مال أو بنين، مع أخذه من الدنيا بنصيب؛ فقد أصاب الغرض؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)[سورة الإسراء: 19].

 

ومن كان سعيه للدنيا وانصرف إليها، وانغمس فيها ولم يهتم بالآخرة فيعمل صالحًا؛ فقد ضل سواء السبيل، وكان حظه ما قُدِّر له في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب؛ قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)[سورة الشورى: 20].

 

 أما المثل الثاني فقد قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد نام على حصير فأثَّر في جنبه الشريف-: يا رسول الله، لو اتخذت وطاءً واقيًا، قال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، فعلى المرء أن يتصور هذا الموقف على الدوام لئلا تذهب به الغفلة عن التذكرة، ولئلا يتسلط عليه الشيطان ويغريه بطول الأمل وهو منغمس في مشاغل الدنيا لم يعمرها بصالح العمل.

 

فاتقوا الله -عباد الله- واغتنموا فرص هذه الحياة واكسبوا فيها عملاً صالحًا فهي مزرعة للآخرة.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[سورة الحديد: 20].

 

بارك الله لي ولكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرم الخلق على ربه اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

 

أما بعد، فيا عباد الله: صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قد أفلح مَن أسلم وكان رزقه كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه"، وفي ذلك -يا عباد الله- توجيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- للأخذ من الدنيا بقدر، والقناعة فيها بما قسم الله للعبد، فإنما هي دار نقلة ولن يستصحب منها العبد شيئًا إلى الآخرة إلا ما قدَّم من عمل صالح.

 

 أيها المسلمون: إن المتأمل في واقع الناس اليوم يتجلَّى له عيانًا ضرر الدنيا على المتهافتين عليها في دينهم ودنياهم كما يظهر له حالة مَن أعرض عنها ولم تشغله؛ فكونوا على حذر منها، فهي فتنة وبلوى.

 

 وصلوا على نبينا محمد امتثالا لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life