اقتباس
وكل من دخل في الإسلام وشهد.. لم يُفرِّق بين عربي وعجمي ولا بين أبيض وأسود... فهذا هو أصل الأخوة وأساسها: "الإسلام"، نعم؛ رابطة الدين دين الإسلام، التي هي مقدَّمة على كل ما سواها من الروابط من نسب ورحم وقرابة وعرق ووطن ولغة وقومية ومكان...
كان الأوس والخزرج من أعدى الأعداء، كم جرت بينهم حروب وفرقت بينهم دماء، أكثر من مائة عام من الحروب بلغت فيها العداوة منتهاها، وجاز البغض أشده، وتجاوزت الضغينة غايتها، وتعدت الوقيعة مداها... حتى لو اجتمع الماء والنار في إناء، ما اجتمعت الأوس والخزرج في مكان بغير قتال وعداء! حتى لقد قال القرآن الكريم: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)[الأنفال: 63].
وتمام الآية يقول: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 62-63]، يقول ابن الجوزي: "والمراد بالآية: الأوس والخزرج وهم الأنصار، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية فألف الله -عز وجل- بينهم، وهذا من أعجب الآيات، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة، فلو أن رجلًا لطم رجلًا لقاتلت عنه قبيلته حتى تدراك ثأره، فآل لهم الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه في طاعة الله -عز وجل-"...
ثم علَّق ابن الجوزي قائلًا: "اعلم أن المعنى الجامع بين المسلمين: الإسلام؛ فقد اكتسبوا به أخوة أصلية، ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض"(التبصرة، لابن الجوزي).
فسبحان الله الذي أبدلهم بالعداوة محبة وبالبغضاء تآلفًا، وبالشحناء مودة وأخوة؛ وجعلهم إخوة في دين الإسلام.
وعلى هذه الأخوة قام صرح الإسلام وأنشئت دولته؛ فمن أوائل الأعمال التي فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار، حتى صاروا أكثر من إخوة الدم والصلب والنسب، وهذا نموذج يرويه لنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: "لما قدموا المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟..."(متفق عليه).
***
وكل من دخل في الإسلام وشهد "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" فهو أخ لنا: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)[التوبة: 11]، مهما كان جنسه أو لغته أو لونه أو قبيلته... فما دام مسلمًا فهو أخي؛ فكلنا أبناء الإسلام قد صرنا به أخوة:
أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
وحين قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10]، لم يُفرِّق بين عربي وعجمي ولا بين أبيض وأسود، وكذلك حين قال رسوله -صلى الله علسه وسلم-: "المسلم أخو المسلم"(متفق عليه)، لم يشترط في المسلم الذي هو أخ لجميع المسلمين جنسًا ولا قومية ولا لغة ولا دولة... وصدق الشاعر:
يا أخي في الهند أو في المغرب *** أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي *** إنه الإسلام أمي وأبي
فهذا هو أصل الأخوة وأساسها: "الإسلام"، نعم؛ رابطة الدين دين الإسلام، التي هي مقدَّمة على كل ما سواها من الروابط من نسب ورحم وقرابة وعرق ووطن ولغة وقومية ومكان...
***
لكن حتى تكتمل هذه الأخوة الإيمانية لا بد من مراعاة "حقوق الأخوة وآدابها"، وهي كثيرة ومنها ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "حق المسلم على المسلم ست"، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته، وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه"(متفق عليه).
ومنها: قضاء الحوائج وتفريج الكروب: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ".. وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا"(رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
ومنها: أن يعيش في أمان ولا يؤذى: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره... كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه"(رواه مسلم).
ومنها: أن تتمنى لإخوانك ما تتمناه لنفسك، وأن تكره لهم ما تكرهه لنفسك، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(متفق عليه).
ومنها: أن تحفظ سره ولا تشهر به: فعن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
ثم إن حقوق الأخوة وآدابها كثيرة لا تكاد تنحصر.
***
ولا يكفي لنصون الأخوة بين المسلمين أن نقوم بحقوق الأخوة وفقط؛ بل لابد أن نحذر من نواقض الأخوة ومفسداتها، وأن نعمل على ما يوثِّقها ويعزِّزها وينميها، وهذا ما لا يتسع المقام في هذه المقدمة السريعة لتفصيله، لذا رتبناه مع غيره من جوانب موضوع الأخوة الإسلامية في هذا الملف العلمي الجامع الشامل؛ فبدأنا بمعنى الأخوة وأنواعها وحكمها وأهميتها، وذلك في المحور الأول، ثم تكلمنا في المحور الثاني عن فضائل الأخوَّة في الدين، وآثارها، وشؤم تضييعها، وعرجنا في المحور الثالث على حقوق الأخوَّة ومقتضياتها وآدابها والتي ذكرنا منذ سطور نتفًا منها، أما المحور الرابع فقد قدمنا فيه ميادين الأخوَّة، ونماذج تطبيقية وتاريخية لها، وذكَّرنا في المحور الخامس بوسائل تعزيز الأخوَّة وحذَّرنا من مفسداتها، ثم جمعنا في المحور السادس والأخير مراجع وكتبًا؛ لتكون تأصيلًا جميع ما ورد في الملف كله.
والله نسأل أن ينفع بهذا الملف العلمي المتعاونين في إنشائه والمطالعين له، فإنه -عز وجل- خير المسئولين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم