التفكير المقاصدي وأثره في إعداد الخطبة

شريف عبد العزيز

2025-10-30 - 1447/05/08
التصنيفات: وعي الخطيب

اقتباس

هذا الفقه على وجه الخصوص لا يمكن للخطيب أن يحيد عنه عند تناول أي موضوع أو طرح أي قضية معاصرة من على منبره الخطابي؛ ففقه الخطيب لواقعه مبني على دراسة الواقع المعيش، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على...

من الكلمات التي كثيراً ما نجدها تتردد في كتب الشريعة، خاصة الفقه وأصوله وقواعده الكلية؛ الغاية والحكمة والعلة والمصلحة والغرض، إلى آخر هذه المترادفات اللغوية التي تهدف إلى مقاصد الشريعة الكلية وغايات النصوص العليا والأسرار التي أودعها الشارع الحكيم في نصوص أحكامه وتشريعاته مما فيه مصلحة للمكلفين في العاجل والآجل.

 

فالغاية من الأحكام الشرعية وبحث النتائج الكلية المترتبة على وقوعها جملة وتفصيلاً، عامة وخاصة، من أهم الأدوات التي يجب على العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ وكل من يتوجه إلى جماهير الأمة بخطاب دعوي كان أو علمي أو وعظي إرشادي أن يتحلى بها ويتسلح بها في أداء وظائفه الدينية.

 

فلا يتصور بل لا يجوز أن يبني فقيه فتواه، أو أن يكتب خطيب خطبته، أو يُدّبج واعظ وداعية موعظته، دون أن يكون ملاحظاً لغايات التشريع العامة، مراعياً لمقاصده الكلية، ومحافظاً على الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة؛ فبدون ذلك تتحول الفتاوى إلى قيود وأغلال تعسّر معايش الناس وتعطلها، وتتحول الخطب والمواعظ إلى خيالات وأوهام عقيمة المعنى عديمة الأثر، ولربما جاءت بنتائج عكسية وآثار سيئة.

 

فالتفكير المقاصدي ينور بصائر العلماء والخطباء والدعاة والوعاظ لما فيه مصالح البلاد وخير العباد، ويوازن بين النصوص والقواعد المستمدة منها، ويربط بين السبب والمسبب، وبين العلة والأثر المترتب عليها، ويستشرف المآلات والنتائج، ويراعي الاستدلال والاستنباط والترجيح وترتب الأثر، بما يحقق صلاحية الشريعة الإسلامية واستمرارها وحاكميتها، وقطع الطريق على أعداء الدين الذين يروجون لجمود الدين وعدم أهليته لتحقيق مصالح الناس في هذه الأيام.

 

ولأهل العلم من السلف والخلف نصوص صريحة في أهمية اعتبار المقاصد كأساس في مباشرة الوظائف الدينية من الفتوى والخطابة والوعظ.

فإمام الحرمين الجويني الذي ينص في مدخل كتابه البرهان على أن التفطن للمقاصد شرط للتبصر بالشريعة، فيقول: "ومن لم يتفطّن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة".

 

وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر أن الفقه في الدين في معرفة مقاصد الشريعة وحكمها؛ فقال: "الفقه في الدّين هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها".

 

والإمام الشاطبي حصر شروط التأهّل للاجتهاد في الاتّصاف بفهم المقاصد والقدرة على الاستنباط بناءً على ذلك الفهم، بقوله: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها".

 

وقال الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين: "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله".

 

وهنا نقول كيف يؤثر الفكر المقاصدي في الخطيب على إعداد الخطبة؟

الخطيب إذا كان مراعياً لمقاصد الشريعة عند إعداده لخطبة الجمعة، مستخدماً للفكر المقاصدي عند كتابته لموضوع خطبته، فيلزمه الاعتماد على أربعة دعائم رئيسية تضبط إعدادات الخطبة على تحقيق الأثر المرجو منها، والدعائم هي:

أولاً: فقه النصوص الشرعية

ولا نعني بذلك الفقه المجرد العام الذي بمثابة الأحكام الكلية المستنبطة من النصوص الشرعية، لكن الفقه الأكبر الذي يراعي أحوال المكلفين والمخاطبين، وتباين أفهامهم وعقولهم، ومدى استيعابهم للنصوص وقدرتهم على فهم المراد منها، والخطيب عندما يذكر النصوص الشرعية في خطبته لابد أن يكون له مقاصد معينة ومعان محددة ورسائل واضحة يريد تبليغها للمخاطبين وجمهور الحاضرين، ويريد -أيضاً- أن يفهمها المستمع جيداَ ويدرك مغزاها وغايتها بلا نقصان ولا قصور، وأيضا بلا زيادة ولا تجاوز، وبدون مراعاة ذلك الأمر قد تأتي الخطبة بعكس مقصدها، فتهدم بدلاً أن تبني، وتكون حديث فتنة وإثارة وتشغيب من حيث لا يدري الخطيب.

 

ثانياً: فقه الواقع

الواقع هو مجموع الأحداث والوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، التي تحيط بمجتمع ما، في زمان ومكان ما، وكلما كَبر حجم المجتمع وكثر أفراده، أصبح كثير التغير، شديد التعقيد والتشابك. ومن ثم فإن فهم تلك الوقائع واستيعابها، وتبين طبيعتها وخصائصها، حتى يسهل تنزيل الحكم الشرعي عليها، وتحقيق المناط الخاص والعام، من أهم الأفقه والفهوم التي يجب على أهل العلم والدعوة والخطابة معرفتها والاحاطة بها.

 

هذا الفقه على وجه الخصوص لا يمكن للخطيب أن يحيد عنه عند تناول أي موضوع أو طرح أي قضية معاصرة من على منبره الخطابي؛ ففقه الخطيب لواقعه مبني على دراسة الواقع المعيش، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات، لتحقيق الفهم العميق والاحاطة الشاملة بالقضية المثارة، ولأنه يسعى إلى توصيل رسالته بأنسب العبارات التي يفهمها الناس ويدركون مغزاها ويقرأون رسائلها بكل وضوح.

 

ويكفي للتدليل على ذلك إنكار النبي-صلى الله عليه وسلم- الشديد على من أقدموا على الفتوى وتقرير الأحكام دون النظر إلى الواقع وأحوال المستفتي، وفقه ظروفه الخاصة، وما يصلح له، كما حدث في واقعة الصحابي الذي احتلم وكان جريحاً في احدى الغزوات، وهي قصة معروفة.

 

كما اجتهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رصي الله عنه- في عدم إجراء حد السرقة عام الرمادة؛ وهو عمل بالأولى في الاعتبار حين تعارض مقصد حفظ النفس مع مقصد حفظ المال، وليس كما يقال ضعاف العقول بإن سيدنا عمر رضي الله عنه- أوقف العمل بالشريعة وأبطل حداً من حدود الله؛ لأن غاية ما فعله عمر هو تطبيقه لفقه الواقع، فاجتهد في تنزيل الحكم باعتبار الضرورات، ذلك لأن حفظ النفس مقدم على حفظ المال في الشريعة على الجملة، وللضرورة أحكام، على أن حالة الاستثناء لا تؤثر على الحكم الأصلي.

 

ثالثاً: النظر في المآلات

من الأمور اللافتة في أداء الكثير من الخطباء المعاصرين؛ إهمالهم لمآلات خطابهم الدعوي والارشادي، فترى كلمات كالطلقات تصيب هذا وتصرع هذا من حيث لا يدري الخطيب!! والنظر إلى مآلات الخطاب من القواعد المهمة المعتبرة، والمقاصد العظيمة في الشريعة، وذلك لأنها تمثل بجلاء روح النصوص، ومقاصد الشريعة، وتهدف إلى تحقيق عملية الفهم الصحيح، وتكفل المصالح الشرعية التي رعاها الشارع من الأحكام، ورفع الحرج عن المكلفين؛ فالتكاليف مشروعة لمصالح تجلب في الدنيا والآخرة، وليس للعنت والحرج والمشقة الجالبة للتعسير مؤدية إلى القنوط والإحباط.

 

رابعاً: الإتقان اللغوي

مدخل التفكير المقاصدي في بناء الخطبة مدخلاً لغوياً يُعتنى فيه بعقد التواصل بين الناس وربهم باللغة التي بمقتضاها يفهم المتلقون النص والخطاب الإلهيين؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[إبراهيم:4]؛ أي بلغتهم ليبين لهم أمر دينهم على وجه مفهوم، وهو عين ما يلزم الخطيب عند مخاطبة جمهور المستمعين، وذلك كله بحسب الضابط اللغوي من جهة، وضابط الفهم المستمد من كلية الخطاب من جهة ثانية، خاصة عند الالتباس وعمومية الألفاظ.

 

روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام:83] شق ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: "أينا لا يظلم نفسه؟" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس هو كما تظنون، إنما كما قال لقمان لابنه: (يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:4].

 

فالخطيب وظيفته التبيين والتفهيم، واتقانه للغة العربية؛ فمن الثابت القطعي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث ليبين لغة القرآن فحسب، ولكن لصياغة المفهوم المقاصدي للكلام المعجز، الذي تؤسس به المفاهيم، والتصورات، والمواقع، ومناهج النظر والتفكير؛ وتدار به العقول، وتُدبر الفهوم؛ وما كان لفحل من فحول اللغة العربية في الجاهلية، الوليد بن المغيرة أن يندهش بمجرد لفظ يعرفه، ويتقن استخدامه، ولكن انبهاره الحقيقي كان بمعاني النص الخطابية ومرامي الكلام وغاياته، التي أذهلته عن مهمة مساواة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومفاوضته للتخلي عن دعوته، ليضع الوليد بن المغيرة شهادته التاريخية عن رسائل الوحي، مرددا: "إن له لحلاوة، وان عليه لطلاوة، وإن  أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه".

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات