عناصر الخطبة
1/الموت آتٍ لا محالة 2/السعيد من عمل الخيرات وترك المنكرات 3/نعيم المؤمنين في جنات النعيم 4/التحذير من الاغترار بملاذ الدنيا وزخرفها 5/قصر الأمل في الدنيا 6/محبة وطننا الحقيقياقتباس
أليست الدنيا قد أشغلتنا وألهتنا عن الآخرة؟ أليس في المجلات والجرائد الكثير من الكلمات لمن ينادي بالحضارة والوطنية والترغيب في حب الدنيا والميل إليها؟ هل انعكست المفاهيم؟ أم خفيت علينا هذه الأدلة؟ أم ران على القلوب هذا المكسب من المال وغيره من الأعمال؟...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله مقنع مَن شاء مِن عباده بما قسم له، ومبتلي مَن شاء بالنَّهَم فلم يقنع بما تيسر له، فسبحانه من إله عظيم، يعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، والمالك لخزائن السماوات والأرض.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير مَن عرف حقيقة الدنيا، فلم يركن إليها، وإن أصابه الجوع فيها وربط على بطنه الحجر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين قدّموا حُبّ الآخرة على حب الدنيا، وكذا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، ولا تغرنّكم الحياة الدنيا بزخرفها، فإنما هي متاع قليل، والآخرة خير وأبقى، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
عباد الله: لقد ضرب الله لنا مثلاً لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها لأجل الحذر منها وعدم الاغترار بها؛ فقد قال -تعالى-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[سورة يونس: 24]، فاعتبروا -رحمكم الله- بهذا المثل مِن الله عن الدنيا في زوالها عن أهلها سريعاً مع اغترارهم بها، فلا تغتروا بها.
أيها المسلمون: إن المعاد كائن لا محال، والسعيد منا مَن نال فيه الثواب، وسلم من العقاب؛ حيث لم يغتر بالدنيا، بل كان فيها عاملاً للباقيات الصالحات؛ إذ هي جُلّ هَمّه وشغلته الشاغلة، مستجيباً لمولاه حين دعاه؛ قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[سورة يونس: 25]، فدار السلام الجنة، والله يدعونا إليها تفضلاً منه وكرماً، فمن أحسن منا الإيمان والعمل فهو موعود بها وزيادة، قال -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[سورة يونس: 26]، فلهم في الجنات القصور، والحور، والرضا، وما أخفي لهم من قرة أعين.
وأفضل من ذلك: النظر إلى وجه الله الكريم، فإنه زيادة عظيمة على جميع ما أعطوه؛ فعن صهيب -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وقال: "إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن يُنجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثقِّل موازيننا؟ ألم يُبيِّض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم".
فيا مَن يريد رضا الله وجنته والنظر إليه، اتق الله -تعالى-، ولا تغتر بملاذ الدنيا وزخرفها، وليكن جُلّ عملك لدار السلام، ألا تسمع قوله -تعالى-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[سورة آل عمران: 185]، وقوله -تعالى-: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[سورة فاطر: 5].
أليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم"، وقال في حديث آخر: "إن مما أخاف عليكم من بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها"، وقال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله -تعالى- مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء".
عباد الله: أليس لنا في رسول الله أسوة حسنة؟ فما مسكنه؟ وما متاعه؟ وما عمله لآخرته؟ لقد كانت حجراته غير مسقوفة وإنما مظللة، ومسجده عريش كعريش موسى -عليه السلام-، ولقد نام على حصير فأثر في جنبه، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها".
ولقد أخذ بمنكب عبد الله بن عمر فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"، فكيف حالنا الآن؟ أليست الدنيا قد أشغلتنا وألهتنا عن الآخرة؟ أليس في المجلات والجرائد الكثير من الكلمات لمن ينادي بالحضارة والوطنية والترغيب في حب الدنيا والميل إليها؟ هل انعكست المفاهيم؟ أم خفيت علينا هذه الأدلة؟ أم ران على القلوب هذا المكسب من المال وغيره من الأعمال؟
أيها المسلمون: يقول ابن رجب -رحمه الله- في شرحه لحديث ابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال -تعالى- حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[سورة غافر: 39].
ومن وصايا المسيح -عليه السلام- لأصحابه أنه قال لهم: "اعبروها ولا تعمروها"، وروي عنه أنه قال "مَن ذا الذي يبني على موج البحر داراً؟ تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً".
ودخل رجل على أبي ذر فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه، فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا هنا.
ودخلوا على بعض الصالحين فقلَّبوا بصرهم في بيته، فقالوا: "إنا نرى بيتك بيت مرتحل، فقال: لا أرتحل، ولكن أطرد طرداً".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[سورة الحديد: 20].
بارك الله لي ولكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أحمده -سبحانه- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله عظيم لا تحصى نعمه، ولا تُعدّ فضائله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي كان غالب قوته الماء والتمر واللبن والشعير، وربما بات طاوياً، فإذا أصبح ولم يجد ما يقتاته أمسك صائماً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: فإن الوطن الحقيقي الذي نحن إليه ونحبّه وحبّه من الإيمان، وطننا الأول الذي أُهبط منه آدم -عليه السلام- وسيعود إليه، ألا وهو الجنة، وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قرار، كم كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثّق عن قليل يخرب، وكم من مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها كأنه غريب، مقيم في بلد غربة، همّه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، في ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة؛ قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همّه مرّمة جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك فلا همّ له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم".
فاتقوا الله عباد الله: واهتموا بالآخرة: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان : 33].
اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها، ووفِّقنا إلى رضوانك وجنتك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمّنا، ولا مبلغ علمنا، وارزقنا حبك وحبّ مَن يحبك، يا ذا الجلال والإكرام.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم