المبشرون بالجنان (2-10) عمر بن الخطاب

راكان المغربي

2025-12-12 - 1447/06/21 2025-12-25 - 1447/07/05
عناصر الخطبة
1/بشارة النبي لعمر بالجنة 2/عزة عمر وقوته 3/زهده في الدنيا 4/عدله وحرصه على الرعية 5/مقتل عمر ووصيته عند موته

اقتباس

لَقَدْ فَتَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْفُتُوحَاتِ، مَا جَعَلَهُ أَعْظَمَ مُلُوكِ الدُّنْيَا فِي عَهْدِهِ، وَعَلَى يَدَيْهِ تَحَطَّمَتِ الْقُوَى الْكُبْرَى فِي الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَعَلَ الْآخِرَةَ نُصْبَ عَيْنِهِ، وَغَايَةَ هَمِّهِ، وَلَمْ تُغْرِهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَبَاهِجُهَا، فَتُنْسِيَهُ الدَّارَ الآخِرَةَ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:      

 

إنَّ الحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

أما بعد: خَبَرٌ حَصْرِيٌّ، وَنَبَأٌ مُؤَكَّدٌ: "عُمَرُ فِي الْجَنَّةِ"، هَكَذَا خَرَجَتِ الْكَلِمَاتُ مِنْ فِيهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَحُسِمَتِ الْقَضِيَّةُ، وَكُتِبَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ الْجِنَانِ، وَهُوَ لَا يَزَالُ يَمْشِي بَيْنَ الْأَنَامِ.

 

الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سِيرَتُهُ عَطِرَةٌ، وَأَحَادِيثُهُ نَضِرَةٌ، وَأَخْبَارُهُ لَا تَسَعُهَا الْخُطَبُ الطِّوَالُ، لَكِنْ حَسْبُنَا أَنْ نَغْتَرِفَ مِنَ الْبَحْرِ قَطَرَاتٍ، وَمِنَ الْبَسَاتِينِ زُهُورًا، وَكَمَا هِيَ عَادَتُنَا فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ، سَنَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْفَارُوقِ الْعِظَامِ؛ نَحْسَبُ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ بُلُوغِهِ الرِّضْوَانَ، وَتَبْشِيرِهِ بِالْجِنَانِ.

 

الْعَمَلُ الْأَوَّلُ: الْعِزَّةُ بِالْإِسْلَامِ وَالْقُوَّةُ فِي الْحَقِّ: فَقَدْ فَطِنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُبَكِّرًا لِهَذِهِ السِّمَةِ الْعُمَرِيَّةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْلِمَ، فَرَجَا مِنَ اللهِ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يُسَخِّرَ عِزَّتَهُ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَدَعَا بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُبَارَكَةِ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً"، اسْتَجَابَ اللهُ وَأَسْلَمَ عُمَرُ، فَكَانَ إِسْلَامُهُ حَدَثًا فَارِقًا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، فَرَّقَ اللهُ بِإِسْلَامِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَكَانَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إِسْلَامِ عُمَرَ غَيْرَ حَالِهِمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ؛ وَلِذَا سُمِّيَ الْفَارُوقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

 

يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إِمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً، وَلَقَدْ كُنَّا وَمَا نُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَ قُرَيْشًا، حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ".

 

وَلَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُسْلِمُونَ خُفْيَةً عَلَى خَوْفٍ مِنْ مَلَإِ قُرَيْشٍ، أَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَإِنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ قَصَدَ إِعْلَانَ إِسْلَامِهِ، مُتَحَدِّيًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَافَّةً، يَقُولُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ، فَغَدَا عَلَيْهِ، حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ -يَا جَمِيلُ- أَنِّي أَسْلَمْتُ، وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا، حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ-: أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ، وَعُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ يَقُولُ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، قَالَ: وَطَلَحَ فَقَعَدَ، وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاللهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلَاثَ مِئَةِ رَجُلٍ، لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا".

 

وَكَمَا كَانَتْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ تَخَافُ مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَكَذَلِكَ كَانَتْ شَيَاطِينُ الجِنِّ، يَوْمًا مَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ".

 

الْعَمَلُ الثَّانِي: زُهْدُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَهَذَا دَرْسٌ تَعَلَّمَهُ مِنْ مُعَلِّمِهِ وَنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ دَخَلَ عُمَرُ يَوْمًا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَوَجَدَهُ فِي حَالَةٍ صَعْبَةٍ، فِرَاشُهُ الْحَصِيرُ الْخَشِنُ الَّذِي يَحْمَرُّ جِلْدُهُ بِسَبَبِهِ، وَوِسَادَتُهُ صُلْبَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَيُّ مَظَاهِرِ اللِّينِ، فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! اُدْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ"، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟".

 

وَمُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ لَمْ تَعُدِ الدُّنْيَا وَمَبَاهِجُهَا وَزَخَارِفُهَا شَيْئًا فِي عَيْنِ عُمَرَ، فَحِينَ ذَهَبَ لِيَسْتَلِمَ مَفَاتِيحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّذِي هُوَ دُرَّةُ الدُّنْيَا، وَمَحَطُّ أَنْظَارِ الْعَالَمِ، وَمِحْوَرُ صِرَاعِ الْحَضَارَاتِ، فَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يَخْرُجْ فِي مَوْكِبٍ مَهِيبٍ، وَلَا زِينَةٍ بَاهِرَةٍ، بَلْ خَرَجَ بِبَعِيرِهِ وَمَعَهُ غُلَامُهُ يَتَنَاوَبَانِ عَلَيْهِ، يَرْكَبُ أَحْيَانًا وَيَمْشِي أَحْيَانًا، حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى مَشَارِفِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، مَرَّ عَلَى وَحْلٍ مِنْ طِينٍ، فَخَاضَ فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ قَائِدُ جَيْشِهِ وَرَفِيقُ دَرْبِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ: "أَوَّهْ! لَوْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا نَطْلُبِ الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ".

 

لَقَدْ فَتَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْفُتُوحَاتِ، مَا جَعَلَهُ أَعْظَمَ مُلُوكِ الدُّنْيَا فِي عَهْدِهِ، وَعَلَى يَدَيْهِ تَحَطَّمَتِ الْقُوَى الْكُبْرَى فِي الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَعَلَ الْآخِرَةَ نُصْبَ عَيْنِهِ، وَغَايَةَ هَمِّهِ، وَلَمْ تُغْرِهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَبَاهِجُهَا، فَتُنْسِيَهُ الدَّارَ الآخِرَةَ، يَقُولُ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ -وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ-: "عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! بَخٍ بَخٍ، وَاللَّهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ، أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ".

 

الْعَمَلُ الثَّالِثُ مِنْ أَعْمَالِ عُمَرَ الْجَلِيلَةِ: عَدْلُهُ وَحِرْصُهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَحُسْنُ قِيَامِهِ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ: فَقَدْ كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَمْشِي بِنَفْسِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَطُوفُ فِي الطُّرُقَاتِ، وَيَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَ لَيْلُهُ كَنَهَارِهِ، يَخْرُجُ يَطْمَئِنُّ عَلَى رَعِيَّتِهِ فِي ظَلَامِ اللَّيَالِي؛ لِيُوَفِّرَ لَهُمُ الْأَمْنَ، وَيَطْرُدَ عَنْهُمُ الشُّرُورَ.

 

خَرَجَ يَوْمًا إِلَى إِحْدَى حَرَّاتِ الْمَدِينَةِ، فَرَأَى نَارًا مُوقَدَةً وَصِبْيَةً يَبْكُونَ مِنَ الْجُوعِ، فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِمْ وَقَالَ لَهَا: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتِ: الْجُوعُ، قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ؟ قَالَتْ: مَا أُسْكِتُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا، وَاللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَحِمَكِ اللَّهُ، وَمَا يُدْرِي عُمَرَ بِكُمْ؟ قَالَتْ: يَتَوَلَّى عُمَرُ أَمْرَنَا ثُمَّ يَغْفُلُ عَنَّا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ وَغُلَامُهُ يُهَرْوِلَانِ حَتَّى أَتَوَا دَارَ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ دَقِيقًا وَشَحْمًا، وَقَالَ لِغُلَامِهِ: احْمِلْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ يُهَرْوِلُ، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا، وَظَلَّ يَنْفُخُ النَّارَ بِنَفْسِهِ، وَيَخْبِزُ الدَّقِيقَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ عِنْدِهَا حَتَّى رَأَى صِبْيَتَهَا قَدْ أَكَلُوا وَشَبِعُوا وَنَامُوا، فَقَالَتْ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، كُنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.

 

وَلَمَّا حَلَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامُ الرَّمَادَةِ وَأَصَابَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ شَيْئًا عَظِيمًا، كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ، يَأْكُلُ مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَيَجُوعُ كَمَا يَجُوعُونَ، فَكَانَ يَأْكُلُ الزَّيْتَ، فَقَرْقَرَ بَطْنُهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ: "قَرْقِرْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ، لَا تَأْكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَأْكُلَهُ النَّاس"، وَمِنْ أَقْوَالِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَقُولَتُهُ الْعَظِيمَةُ: "لَوْ أَنَّ جَمَلًا هَلَكَ بِشَطِّ الْفُرَاتِ، لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللهُ عَنْهُ".

 

ذَلِكُمْ هُوَ الْفَارُوقُ عُمَرُ، وَتِلْكَ هِيَ بَعْضُ أَعْمَالِهِ الْجَلِيلَةِ، فَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَيْهَا، وَاصْعَدُوا بِهِمَمِكُمْ إِلَيْهَا، كُونُوا أَعِزَّةً بِالْإِسْلَامِ، أَقْوِيَاءَ فِي الْحَقِّ، لَا تَأْخُذْكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، ازْهَدُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَلَا تُغْرِكُمْ زِينَتُهَا الْفَانِيَةُ، وَمَتَاعُهَا الزَّائِلُ، وَاصْرِفُوا لِلْآخِرَةِ جُلَّ سَعْيِكُمْ، وَأَكْبَرَ هَمِّكُمْ.

 

"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، فَاحْذَرُوا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي رِعَايَتِكُمْ لِأَهْلِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَخَدَمِكُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فِي عَامِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَيْنَمَا كَانَ عُمَرُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَجْرِ بِالنَّاسِ، إِذِ انْبَثَقَ اللَّعِينُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ الْمَجُوسِيُّ مِنْ بَيْنِ الصُّفُوفِ، فَطَعَنَهُ بِسِكِّينٍ سَامَّةٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، ثُمَّ انْطَلَقَ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا، فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، ثُمَّ صَلَّى النَّاسُ.

 

يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَاحْتُمِلَ إلى بَيْتِهِ، فَانْطَلَقْنَا معهُ وكَأنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَومَئذٍ، فَأُتِيَ بنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِن جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِن جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أنَّه مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عليه، وجَاءَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عليه، وجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: "أبْشِرْ -يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ- ببُشْرَى اللَّهِ لَكَ؛ مِن صُحْبَةِ رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وقَدَمٍ في الإسْلَامِ ما قدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ"، فقال عمر: "وَدِدْتُ أنَّ ذلكَ كَفَافٌ لا عَلَيَّ ولَا لِي"، فَلَمَّا أدْبَرَ إذَا إزَارُهُ يَمَسُّ الأرْضَ، قَالَ: "رُدُّوا عَلَيَّ الغُلَامَ"، قَالَ: "يا ابْنَ أخِي، ارْفَعْ ثَوْبَكَ؛ فإنَّه أبْقَى لِثَوْبِكَ، وأَتْقَى لِرَبِّكَ"، ثم وجه الكلام لابنه فقال: "يا عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ، انْظُرْ ما عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفًا أوْ نَحْوَهُ"، فقَالَ: "إنْ وَفَى له مَالُ آلِ عُمَرَ، فأدِّهِ مِن أمْوَالِهِمْ، وإلَّا فَسَلْ في بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ، فإنْ لَمْ تَفِ أمْوَالُهُمْ فَسَلْ في قُرَيْشٍ، ولَا تَعْدُهُمْ إلى غيرِهِمْ، فأدِّ عَنِّي هذا المَالَ".

 

ثم قال له: "انْطَلِقْ إلى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، ولَا تَقُلْ: أمِيرُ المُؤْمِنِينَ؛ فإنِّي لَسْتُ اليومَ لِلْمُؤْمِنِينَ أمِيرًا، وقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أنْ يُدْفَنَ مع صَاحِبَيْهِ"، فَسَلَّمَ واسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ السَّلَامَ، ويَسْتَأْذِنُ أنْ يُدْفَنَ مع صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: "كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، ولَأُوثِرَنَّ به اليومَ علَى نَفْسِي"، فَلَمَّا أقْبَلَ، قيلَ: هذا عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ قدْ جَاءَ، قَالَ: "ارْفَعُونِي"، فأسْنَدَهُ رَجُلٌ إلَيْهِ، فَقَالَ: ما لَدَيْكَ؟ قَالَ: الذي تُحِبُّ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أذِنَتْ، قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ، ما كانَ مِن شَيءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِن ذلكَ"، ثُمَّ اسْتَمَرَّ يُوصِي النَّاسَ، حَتَّى فَاضَتْ رُوحُهُ إلى بارِئهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُكَ أَنَّا نُحِبُّكَ، وَنُحِبُّ رَسُولَكَ، وَنُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّاً، وَالصَّحْبَ الْكِرَامَ، اللَّهُمَّ فَأَوْرِدْنَا طَرِيقَهُمْ، وَاسْلُكْ بنا سَبِيلَهُمْ، وَارْزُقْنَا مُرَافَقَتَهُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ.

 

المرفقات

المبشرون بالجنان (2-10) عمر بن الخطاب.doc

المبشرون بالجنان (2-10) عمر بن الخطاب.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات