المفلسون

د. منصور الصقعوب

2025-08-22 - 1447/02/28 2025-09-09 - 1447/03/17
عناصر الخطبة
1/أشد الإفلاس وأخطره 2/المفلس الحقيقي 3/أسباب الإفلاس الأخروي 4/حسرات في يوم الحساب 5/هنيئًا لمن تخفَّف من حقوق العباد.

اقتباس

محرومٌ ذلكم المفلس حين يأتي وقد قذف واغتاب، وولغ في أعراض المسلمين بالذم والسباب، يتصدر المجالس والغاً في لحوم الناس، ينتقد هذا، ويتنقص ذاك، يذم هذا ويغتاب ذاك، يوزع حسناته على أعاديه، ويبدّد طاعاته في أيامه ولياليه، مغبون ذلك المفلس حين يظلم الناس، ويهضم الخلق...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله....

 

في مجلس من مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- العامرة سأل أصحابه يوماً فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" فَقَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.

 

لقد أجابه الصحابة بما يتبادر للذهن في الدنيا، أجابوه بما استقر في الأذهان وتبادر للأفهام أن المفلس من لم يملك مالاً ولا متاعاً، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- نقلهم إلى أبعد من الدنيا وحطامها، نقلهم من التعريف الدنيوي للمفلس.

 

فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"(رواه مسلم).

 

لقد حلّق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالصحابة في إجابته إلى العالم الأخروي؛ لأنه الفيصل في السعادة والشقاوة، والمفلس فيه هو المفلس الحقيقي؛ ذلكم لأن إفلاس الدنيا ليس ضربة لازب فقد يزول وينقطع بموت المفلس، وربما يزول هذا الإفلاس وينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته.

 

لقد أجابهم ببيان الإفلاس الحقيقي وهو الإفلاس الأخروي، الذي هو الحرمان من أجر الأعمال الصالحة ودخول الجنة.

 

الخطورة الحقة في الإفلاس أنه يحلّ بسبب من الإنسان ذاته، فهل رأيت غنياً يبدِّد ماله ويحرقه، هل رأيت ثرياً يُتلِف ماله ويشتته، هل رأيت ذا مالٍ يوزعه على خصومه، لن تجد، لكنك سترى في شأن الحسنات من يصنع ذلك، حين يعتدي المرء على الناس بأيّ نوع من أنواع الاعتداء، فمن لم يأخذ حقه في الدنيا سيأخذه في الآخرة، ولا يكون بالقصاص لهم منه بمثل ما صنع، وإنما بطريقة أخرى تختلف كاختلاف الآخرة عن الأولى، حين "يُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"، نعوذ بالله من حال.

 

وهكذا تنقضي حسناته التي تعب عليها أمام عينيه، تؤخذ منه لفلان وفلان، وهو لا يستطيع حولاً ولا قوة.

 

نعم، لقد أحيا ليل الشتاء القارس بالقيام، وأظمأ نفسه في الهواجر بالصيام، ودفَع ماله في الصدقة للفقراء والأيتام، ثم بلحظات ينتهي ثواب صلاته، وثواب زكاته، وثواب صيامه، ينتهي كل ما عنده من حسنات، فما أعظم خسارته في هذا اليوم العصيب والوقت الرهيب!

 

وليت الأمر توقف على الأخذ من حسناته، إنما يقع الأشد والأسوأ، حين يُؤخَذ من سيئاتهم وتُطرح عليه، ثم يُطرح في النار، والعياذ بالله. كل ذلك يتم أمام نظر العين، وبمشهد من العباد، وبحُكم من الحَكم العدل في يوم المعاد.

 

يا كرام: وأسباب الإفلاس الأخروي كثيرة، ساق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- طرفاً منها في هذا الحديث، يجمعها الاعتداء على الغير بلا حق.

 

فمسكينٌ ذلك المفلس حين يأتي وقد شتم الناس، فكان لسانه في الدنيا ينطلق بالشتم واللعن، وقد قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لعن المؤمن كقتله"، فكم جريمة قتل يقوم بها كثير من الناس اليوم حين يلعنون ويشتمون من ليس بأهلٍ للعن.

 

محرومٌ ذلكم المفلس حين يأتي وقد قذف واغتاب، وولغ في أعراض المسلمين بالذم والسباب، يتصدر المجالس والغاً في لحوم الناس، ينتقد هذا، ويتنقص ذاك، يذم هذا ويغتاب ذاك، يوزع حسناته على أعاديه، ويبدّد طاعاته في أيامه ولياليه، فلو تراه قام من ذلك المجلس، أمضى فيه وقتاً، أضحك غيره بالغيبة، وسيبكي ندماً حين يرى عظيم ما اقترف.

 

مغبون ذلك المفلس حين يظلم الناس، ويهضم الخلق، فهذا يمنعه من مستحقه، وذاك يظلمه في معاملته، وثالثٌ يسلبه حقه، وتلك زوجةٌ يظلمها ويجور عليها، وأولئك أولاد لا يعدل بينهم، ظن أن الظلم فطنة ودهاء، وقوة وحسن أداء، وما درى أنه في حمأة الخطيئة واقع.

 

ينام ملّ عينيه، والمظلوم يقوم ليله يدعو عليه، ونصرة الله قريبة، ودعوة المظلوم مجابة، وما علم الظالم أنه يوم القيامة سيبذل حسنات طاعاته إلى قومٍ سيقت لهم أعمال ما عملوها، فضلاً من الله لهم، وخذلاناً وإملاءً لمن ظلمهم.

 

مسكين ذلك المفلس حين يأكل أموال الناس، ويجحد أموالهم، ويأخذها بنية إتلافها لا بنية سدادها، لا يعطي الأجير أجره، ولا يتورع عن التعدي على مال غيره، ونسي أن مِن ورائه يوماً تكون التوفية فيه بالحسنات.

 

مسكين ذلك المفلس حين يأتي يوم القيامة وقد سفك دم هذا، ولطم هذا، وتعدَّى على هذا، مسكين لأن الوفاء يوم القيامة لن يكون بالدرهم ولا الدينار، بل سيكون بالحسنات.

هؤلاء هم المفلسون حقاً، فما أعظم تبعتهم وما أخسر صفقتهم، وما أسوأ صنيعهم!

 

معشر الكرام: لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة، حتى يؤدي الحقوق عليه، ولو قلَّت، والحساب هناك بمثاقيل الذر، فأين يفر من عليه حق لغيره، وفي الصحيح عن أبي هريرة: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ".

 

فاطمئن يا مَن تطالب بحقك، فمن ورائك يوم الحساب، وحَكمٌ عدل لا يظلم لديه أحد، يقتصّ حتى لبهيمة لا قرن ممن لها قرن فنطحتها، برغم أنه لا تكليف عليها، فكيف ببني آدم، وفي الصحيح: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"(رواه البخاري)؛ فهل عرفتم الآن مَن هو المفلس حقاً، ومن هو الغني صدقاً؟!

 

 اللهم أجرنا من النار، واغفر لنا الأوزار، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

 في غزوة بدر كان رسول الله يُعَدِّلُ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ -يعني سهمٌ- يَعْدِلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسَوَاد بْن غَزيَّة -رضي الله عنه-، وَهُوَ متقدم على الصَّفِّ، "فَطَعَنَ رَسُولُ اللهِ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ وَقَالَ: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ"؛ فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْعَدْلِ، فَأَقِدْنِي، فَقال لَهُ -صلى الله عليه وسلم-: "استَقِد"؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ طَعَنْتَنِي وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، "فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ، وقال: "استقد"، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ، وقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقال: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟" فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ"، فَدَعَا لَهُ -صلى الله عليه وسلم- بِخَيْرٍ.

 

 فما أجلّه من موقف منه -صلى الله عليه وسلم- في التحلل من العباد، ولو بأقل الحقوق، وهكذا ينبغي لمن لنفسه أراد السلامة.

 

وكم تقع منا تصرفاتٌ يسيرة، مع صغير أو كبير، مع عاملٍ أو زميل، أو غيرهم، نرى فيها أننا جرحناه ولو بكلمة، ثم نمضي ولا نتحلل، وهذا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتحلل من لمسة عصا.

 

قال القرطبي: "يجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه، وردّ المظالم إلى أهلها، ويستحلّ كل مَن تعرض له بلسانه ويده وغيرها، ويطيّب قلوبهم حتى يموت ولم يبقَ عليه فريضة ولا مظلمة".

 

فإن مات قبل ردِّ المظالم أحاط به خصماؤه، فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق برقبته، وهذا يقول ظلمتني، وهذا يقول شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني، وهذا يقول: بايعتني وأخفيت عني عيب متاعك، وهذا يقول كذبت في سعر متاعك، وهذا وذاك...

 

فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم، وأحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحيّر من كثرتهم، حتى لم يبقَ في عمرك أحدٌ عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار، وقد ضعُفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم؛ إذ قرع سمعك نداء الجبار؛ (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر: 17].

 

 فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسُك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)[إبراهيم:42- 43].

 

 فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس، وتناولِك أموالهم! وما أشدّ حسرتك في ذلك اليوم! إذا وُقِفَ بك على بساط العدل، وشُوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلسٌ فقيرٌ عاجزٌ مهينٌ، لا تقدر على أن ترد حقاً أو تُظهر عذراً، فعند ذلك تُؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عُمرَك، وتُنقل إلى خصمائِك عوضًا عن حقوقهم. فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم؛ إذ ليس لك حسنة قد سلمت إلا ابتدرها خصماؤك وأخذوها"(التذكرة: ص645).

 

 وبعد يا كرام: وبعد التجوال في عالم الإفلاس الحقيقي، فطوبى لعبدٍ خفيف من حقوق الناس، من مالٍ أو مظلمة أو قول، أو فِعل، حافظ على أعماله فلم يُبدِّدها، ويا خيبة مَن يطلبه الناس بمظالمهم وحقوقهم، والأمر يتبيّن، والغنى والإفلاس سيتضح هناك، حين تكشف الحسابات، عند رب الأرباب، في يوم الحساب.

 

اللهم خَلِّصنا من حقوق العباد. اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

المفلسون.doc

المفلسون.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات