عناصر الخطبة
1/الناس في التعبير عن محبتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم بين متبع ومبتدع 2/لا بد في المؤمن أن يصدق ظاهره باطنه 3/صور من مظاهر السلف تشهد بحسن مخابرهم.اقتباس
يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه، فإنما أظهر نفاقاً على نفاق، بذلك صنع الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- مبدأ المخبر لا المظهر، والحقائق لا الدعاوى، والمعاني لا المسميات، والبواطن لا الظواهر...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
عباد الله: حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقيقة ماثلة في قلوب مليار مسلم في الأرض، وهو فريضة لازمة كذلك؛ قال لله -سبحانه-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، وقال -سبحانه-: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
وهذه الحقيقة العاطفية يعبّر عنها المسلمون بأشكال مختلفة؛ فمنهم من يكتب قصيدة عصماء يمجد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكتفي بذلك، ومنهم من يترنّم بأناشيد وتواشيح وابتهالات يمدح فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكتفي بذلك، ومنهم من يكتب كتاباً في الشمائل النبوية، ومنهم من يعلّق اسم محمد في بيته وسيارته، ومنهم من يتخذ سبحةً طويلة أو عريضة، ومنهم من يغنّي، ومنهم من يرقص، ومنهم من يجوع ويعطش، ومنهم ومنهم، كل ذلك طلباً للتقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لكن السؤال هل هذه الممارسات تفسر شرعاً حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل مثلها في حق الله حبٌّ لله؟ هل عبدالله بن أبي بن سلول محباً لله لأن اسمه عبدالله؟
الجواب، لا ليس كذلك، تسمّ بما شئت مما أباح الله وكن لله محباً، قال العلماء -رحمهم الله-: إن تغيير الأسماء لا يغير الأحكام؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، هذه القاعدة الفقهية الذهبية تحكّم في المسائل القضائية والتعبدية والقيمية كذلك.
أيها المسلمون: الإسلام يريد من أتباعه أن يتمثّلوا العقيدة والعبادة بقلوبهم، بالصدق مع الله -سبحانه-، وليس بالشكليات والمظاهر، وعندما بدأت حركة النفاق في المدينة النبوية كانت أخطر فتنة واجهت المسلمين؛ لأن بها يختلط الحق بالباطل، ويخدع الناس، ويشرخ المجتمع المسلم، وتتميع المعاني الإيمانية، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب.
وانظروا إلى فقه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث نظر إلى شاب قد نكس رأسه في الصلاة؛ فقال له: يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه، فإنما أظهر نفاقاً على نفاق، بذلك صنع الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- مبدأ المخبر لا المظهر، والحقائق لا الدعاوى، والمعاني لا المسميات، والبواطن لا الظواهر.
ولما قدم عمر -رضي الله عنه- الشام تلقته الجنود، وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته، يخوض الماء، وقد خلع خفيه، فجعلهما تحت إبطه، فقيل له يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذه الحال؛ قال إنّا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العز بغيره.
وخطب عثمان -رضي الله عنه- أول خطبة له بعد الخلافة فأرتج عليه واضطرب في كلامه، ثم قال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال.
وأخذها منهم علماء الإسلام الثقات؛ فقال مالك بن دينار: "تلقى الرجل وما يلحن حرفاً، -أي لا يخطئ في تلاوته- وعمله كله لحن.
وعن معاوية بن قرة قال: "بكاء العمل أحب إليّ من بكاء العين، وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: تجد الرجل يتورع عن القطرة من الخمر، أو من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، ولكنه يطلق لسانه في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق.
وقال النووي -رحمه الله-: "الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله، وخشيته، ومراقبته"، وقال ابن الحاج في المدخل: "فمراعاة الباطن أوجب من مراعاة الظاهر؛ لأن الظاهر للخلق، والباطن للخالق.
فلنحكّم -أيها الإخوة- الكتاب والسنة في مفاهيمنا وقيمنا، حين يقول الله -سبحانه-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، وحين يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "التقوى ها هنا"، ويشير إلى صدره، وهنا تتضح قاعدة الأولويات، خشية الله -سبحانه-، الورع، تعظيم الله -سبحانه-، الوقوف عند حدوده، الولاء لله ورسوله والمؤمنين، ومعاداة أعدائهم.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه..
معاشر المؤمنين: وإذا بحثنا عن التقي وجدناه رجلاً يصدق قوله بفعال، ومن أهم الأعمال القلبية التي يعرف بها صدق التدين وحقيقة الالتزام، ما كان عند الاستتار، فيصدق فيها من يراقب الله -تعالى- في أفعاله، ومحاسبته لنفسه.
ومن معايير التدين الدقيقة النظر في حسن معاشرة الناس في الحياة اليومية التي يبتلى فيها الصادق من الكاذب، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس أنفعهم للناس"، وقال: "خيركم خيركم لأهله".
ومن المواقف -كذلك- الشدائد التي تبلو الناس وتختبر صدقهم وتنقِّي معدنهم، الشدائد التي يفر منها المنافقون؛ (ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي)، (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا).
عباد الله: لقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- مع إيمانهم بأهمية عمل الباطن والاجتهاد في إصلاحه، يجتهدون في إصلاح الظاهر ما استطاعوا، حتى يبلغوا الكمال؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- الذي كان يعلم يقيناً أولوية أعمال القلوب يطوف بالبيت ثم يقبل الحجر الأسود، ويقول: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك. اتباع تامٌّ للسنة.
وصلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً بالصحابة فنزع نعليه أثناء الصلاة وجعلهما عن يساره، ففعل الصحابة مثل ما فعل، فلما فرغ قال لهم: ما لكم خلعتم نعالكم في الصلاة؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: فإن جبريل أتاني آنفاً وأخبرني أن فيهما قذراً. انظروا.. اتباع تام للسنة.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب يوم أعطاه راية فتح خيبر: امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فمضى -رضي الله عنه- ومعه الراية والمسلمون، وبعد هنيهة توقف وأخذ يصرخ ولم يلتفت: يا رسول الله، يا رسولَ اللَّهِ على ماذا أقاتلُ؟ قال قاتِلهُم حتَّى يَشهَدوا أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإذا فعَلوا ذلِكَ فقَد مَنعوا دِماءَهُم وأموالَهُم إلَّا بِحقِّها وحِسابُهُم علَى الله. اتباع تام للسنة.
هذا هو الحرص على الكمال، وهذا هو الاتباع المطلق، وهذا هو الاهتداء والتفاني في سبيل ذلك.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم