عناصر الخطبة
1/من الأخلاقِ العالية رد الحق لأهله 2/نماذج من إكرام النبي لأصحابه 3/توقير الصحابة بعضهم بعضا 4/الحث على توقير أهل الفضلاقتباس
إذا ابتعدَتْ مكارمُ الأخلاقِ، وأصبحت ثقافاتُ الأجيالِ يُغذّيها سُفَهاءُ الأحلام؛ لم يعرفِ الجيلُ لأهلِ الفضلِ فضلَهم، وظهرَ أقزامٌ يتطاولونَ على قاماتٍ، في محاولةٍ لإسقاطِ من شابتْ لحاهم في الإسلامِ، فأصبحتِ الشهرةُ هي مِكيالُ الفضيلةِ، والصوتُ العالي هو دليلُ الحكمة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ، رفعَ قدْرَ أُولي الأقدارِ، أحمدُهُ -سبحانَه- وأشكرُهُ على فضلِه المدرارِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، الواحدُ القهارُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المصطفى المُختارُ، صلّى اللهُ وسلّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
تاريخُ الإسلامِ ليسَ مجردَ أحداثٍ مدوَّنةٍ، ووقائعَ مسجَّلةٍ، بل هو تاريخٌ ومواقفُ تَبني أخلاقَ الأمَّةِ، وتُشيِّدُ صُروحَها، وتُعزِّزُ قيمَها، وتَرفعُ فضائلَها، والأمَّةُ التي لا تُحسِنُ فقهَ تاريخِها، ولا تحفظُ حقَّ رِجالِها، أمَّةٌ ضعيفةٌ هزيلةٌ، مُضيِّعةٌ لمَعالِمِ طريقِها.
وأهلُ الفضلِ والمكرماتِ، ومَن لهم قصبُ السَّبقِ في العطاءِ، وشاختْ أجسادُهم في الإسلامِ، قاماتٌ لا ينسى الإسلامُ فضلَهم، ولا يُنكِرُ جميلَهم، ومن القيمِ الرفيعةِ، والأخلاقِ العاليةِ معرفةُ الحقِّ والإجلالُ لأهلِه، وهذا الخلقُ العظيمُ لا يتشبَّثُ به إلا مَن يحفظُ الودَّ، ولا ينسى الفضلَ، ويعرفُ لأهلِ القَدْرِ قَدْرَهم، وهي صفةٌ يتَّصفُ بها أهلُ الشِّيمِ والمكرماتِ.
زيدُ بنُ حارثةَ مولًى، لكنه أوّلُ من سابقَ إلى الدخولِ في الإسلامِ، وبذلَ نفسَه للدفاعِ عن الدعوةِ، فكانَ يقي رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الحجارةَ بنفسِهِ، لما رماه أهلُ الطائفِ، فكان -عليه الصلاةُ والسلامُ- يحبُّه، ويجلُّه، ويعرفُ له سابقتَهُ في الإسلامِ ودفاعَهُ عنه. قالت عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: "أتانا زيدُ بنُ حارثةَ، فقامَ إليهِ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يجرُّ رداءَه، فقبَّلَ وجهَه".
ولما أصيبَ زيدُ بنُ حارثةَ في مؤتةَ نعاهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على المنبرِ، ثم أتى أهله، فجهشت زينبُ بنتِ زيدٍ في وجهِهِ، فبكى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حتى انتحبَ.
عطوفٌ كريمٌ ذو خلقٍ سجحِ *** حوى الشرفَ الأعلى بمجدٍ مؤثلِ
سعدُ بنُ معاذٍ قامَ في الإسلامِ مقامًا عظيمًا، فلما استشارَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ يومَ بدرٍ، قامَ سعدُ بنُ معاذٍ فقالَ: "إيّانا تُريد؟ فوالذي أكرمكَ، وأنزلَ عليكَ الكتابَ، لئن سِرتَ حتى تَضرِبَ أكبادَها ببركِ الغِمادِ، لنسيرَنَّ معكَ، فصِلْ حبالَ من شئتَ، واقطَعْ حبالَ من شئتَ، وسالِمْ من شئتَ، وعادِ من شئتَ، وخُذْ من أموالِنا ما شئتَ"، فنزلَ القرآنُ على قولِ سعدٍ.(أخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ).
ولما أصيبَ سعدٌ يومَ الخندقِ ضربَ له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خيمةً قريبةً منه ليعودَه تقديراً له، فلما نزلَ بنو قريظةَ على حكمهِ جيءَ به محمولاً، قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للأنصارِ: "قوموا إلى سيدِكم"، فلما ماتَ قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "اهتز عرشُ الرحمنِ لموتِ سعدِ بنِ معاذٍ"(متفقٌ عليه).
قَوْمٌ بِهِمْ تَصْلُحُ الدُّنْيَا إِذَا فَسَدَتْ *** وَيَفْرُقُ الْعَدْلُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالْغَنَمِ
وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ أَفْضَى إِلَى أَمَدٍ *** في الفضلِ، وَامتازَ بالعالي منَ الشيمِ
لَوْلاَ الْفَضِيلَةُ لَمْ يَخْلُدْ لِذِي أَدَبٍ *** ذِكْرٌ عَلَى الدَّهْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَدَمِ
قالَ الإمامُ الذهبيُّ: "وَبَلَغَنَا أَنَّ البَرَاءَ يَوْمَ حَرْبِ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْتَمِلُوْهُ عَلَى تُرْسٍ، عَلَى أَسِنَّةِ رِمَاحِهِم، وَيُلْقُوْهُ فِي الحَدِيْقَةِ، فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِم، وَشَدَّ عَلَيْهِم، وَقَاتَلَ حَتَّى افْتَتَحَ بَابَ الحَدِيْقَةِ، فَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةً وَثَمَانِيْنَ جُرْحاً، فاحتمله خَالِدُ بنُ الوَلِيْدِ وأَقَامَ عَلَيْهِ شَهْراً يُدَاوِي جِرَاحَهُ".
وكان المهاجرون يعرفون للأنصارِ فضلَهم ويقدرونَهم قدرَهم، قالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَانَ يَخْدُمُنِي وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْي"، قَالَ جَرِيرٌ: "إِنِّي رَأَيْتُ الأَنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا، لاَ أرى أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ"(أخرجَهُ البخاريُّ).
وأخرجَ الطبرانيُّ عَنْ حَبِيبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: أَنَّ أبَا أيُّوبٍ الأَنْصَارِيَّ قَدِمَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ البَصْرَةَ، فَفَرَّغَ لَهُ بَيْتَهُ، وبالغَ في إكرامِهِ، وَقَالَ: "لأجزينَّك على إنزالك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عندك".
وأولى من يُجَلُ ويُحترمُ ويقدرُ، هم الأقربون، قالت عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ كَانَ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَلَامًا وَلَا حَدِيثًا وَلَا جِلْسَةً مِنْ ابنته فَاطِمَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَآهَا قَدْ أَقْبَلَتْ رَحَّبَ بِهَا، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا حَتَّى يُجْلِسَهَا فِي مَكَانِهِ، وَكَانَتْ إِذَا أَتَاهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَحَّبَتْ بِهِ، ثُمَّ قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ"(أخرجَهُ البخاريُّ في الأدبِ)، وقال الذهبيُّ: "وكانت فاطمة رضى الله عنها صابرةً، ديِّنةً، خَيِّرةً، صيِّنَةً، قانِعَةً، شاكِرَةً للهِ".
وفي مسندِ الأمامِ أحمدِ: أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بَاعَ أَرْضًا لَهُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَسَمَ فِي فُقَرَاءِ بَنِي زُهْرَةَ وَفِي ذِي الْحَاجَةِ مِنَ النَّاسِ، وَفِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْمِسْوَرُ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، بِنَصِيبِهَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: مَنْ أَرْسَلَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، قال: "سَقَى اللهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ"، وهذا من كريمِ الإحسانِ وعظيمِ الامتنانِ؛ (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة: 195].
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروه إنَّ ربي رحيمٌ ودودٌ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على إمامِ المرسلين، وآلهِ وصحبِه والتابعين.
أمّا بعدُ: وإذا تقدمَ العمرُ وشابَ الرأسُ، وشاخَ الجسمُ، كان محلاً وأهلاً للإجلالِ والتقديرِ و"إنّ مِنْ إجْلالِ الله إكْرامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ، وحامِلِ القُرْآنِ غَيْرِ الغالِي فيهِ والجّافِي عَنهُ، وإِكْرامَ ذِي السُّلْطانِ المُقْسِطِ"(أخرجَهُ أبو داودَ).
كانَ العباسُ -رضى اللهُ عنه- يكبرُ النبيَّ سناً، وكانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يجلُّه ويعلي مقامَهُ، في سننِ الترمذيِّ: قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "مَا بَالُ رِجَالٍ يُؤْذُونَنِي فِي الْعَبَّاسِ، وإن عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ".
سُئلَ العباسُ: أَيُّمَا أَكْبَرُ أَنْتَ أَمِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: "هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا وُلِدْتُ قَبْلَهُ"، قال الذهبي: "كان العباسُ شريفاً، مهيباً، عاقلاً، جميلاً، جهوري الصوتِ، يمنعُ الجارَ، ويبذلُ المالَ، ويعطي في النوائبِ مع الحلمِ الوافرِ، والسؤددِ، ثبتَ يومَ حنينٍ وقتَ الهزيمةِ، وآخذ بلجامِ بغلةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وثبت معه حتى نزلَ النصرُ"، عن أبي الزنادِ قالَ: "كانَ العباسُ إذا مرَ بعمرَ أو بعثمانَ وهما راكبان، نزلا حتى يجاوزهما إجلالا له".
إذا ابتعدَتْ مكارمُ الأخلاقِ، وأصبحت ثقافاتُ الأجيالِ يُغذّيها سُفَهاءُ الأحلام؛ لم يعرفِ الجيلُ لأهلِ الفضلِ فضلَهم، وظهرَ أقزامٌ يتطاولونَ على قاماتٍ، في محاولةٍ لإسقاطِ من شابتْ لحاهم في الإسلامِ.
فأصبحتِ الشهرةُ هي مِكيالُ الفضيلةِ، والصوتُ العالي هو دليلُ الحكمة، وكثرةُ المتابعينَ هي مرآةُ المكانة، وكم من نبيلٍ طُمِسَ اسمُهُ؛ لأنّه لم يتكلّفْ تملّقًا، ولم يَمْشِ على أهواءِ رِعاعِ الخَلقِ.
رفعُ السفيهِ معظماً في قومهِ *** وتمزقت بين الكرامِ لواه
وتصدرَ الجاهلُ الرخيصُ مقامَهُ *** وغدا الأديبُ مثقلاً بخطاه
كم تحتاجُ البيوتُ والمحاضنُ، والمؤسساتُ العلميةُ والتربويةُ، لتُربِّي الأجيالَ على إقدارِ القَدرِ، وإجلالِ من يستحقُّ الإجلالَ، حتى ولو كانَ أخاهُ أو قرينَهُ.
قال تميمُ بنُ سلمةَ: "كانَ عمرُ بنُ الخطابِ إذا لقي أبا عبيدة، صافحَهُ، وقبلَ يدَهُ"، وفي صحيحِ البخاريِّ: "أن عمرَ كان يكره مخالفةَ أبا عبيدة".
هكذا فهِمَ وتربّى عليه جيلُ مدرسةِ النبوةِ: كيف يكونُ التعاملُ مع الأقربينَ والأصحابِ، والكبارِ، وأهلِ الفضلِ والإحسانِ؟ فمن الجيلِ الأولِ نقتدي، ومن آثارهِ نهتدي.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ، وارضَ عنه وعن آلهِ وصحبِه أجمعين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، اللهم أبرِمْ لهذه الأمّةِ أمرًا رشيدًا، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُذَلُّ فيه أهلُ الفسادِ والإفسادِ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهى فيه عن المنكرِ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم