عناصر الخطبة
1/حديث عظيم ودعاء جليل 2/السفر ليس عذرًا للتهاون في العبادة 3/السفر مرآة لحقيقة الإنسان 4/من فوائد السفر 5/ أجمل أنواع السفر وأعلاها أثرًا.اقتباس
مَن يسير بعيدًا عن ربه، يَضِلّ ويتعب، ويقسو عليه الطريق، بينما الذي معه ربه لا يخاف ولا يَهِن. تذكّر أن الذي يحفظك في الغيم، هو الذي حفظك في الأرض "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ"، وإذا هبطت واديًا فسَبِّح وإذا علوتَ مرتفعًا فكَبِّر...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله الكبير المتعال، له الشكر بالغدو والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شديد المحال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: فاتقوا الله حيثما كنتم، وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وخالقوا الناس بخلق حسن.
يُحدِّثُ راويةُ الإسلامِ أَبو هُرَيْرَة -رضي الله عنه-، بحديثٍ عظيم ودعاء جليل ينبغي حفظه وتحفيظه قال: كَانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ: «سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا بِاللهِ مِنَ النَّارِ» (أخرجه مسلم).
في أحلك الظروف، في ذروة التعب، في لحظات السحر التي يهيمن عليها السكون، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع صوته بدعاء جميل: «سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا بِاللهِ مِنَ النَّارِ»
حديث يعلمنا أن السفر ليس عذرًا للانقطاع عن ذِكْر الله..
في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عند السحر في السفر إعلانٌ صريحٌ أن السَّفرَ لا يُعفي من ذِكْر الله، أو انقطاع عن دعائه، ولا يجوز أن يكون السفرُ سببًا للتهاون في العبادة، بل هو وقت يحتاج فيه العبد إلى التمسك بالله أكثر، حتى نكون في كل خطوة، وفي كل لحظة، تحت حماية ربنا ورعايته.
ذاكم هو السر في السلامة، وذاك هو النور في الظلمة، وذاك هو الذُّخر الذي لا ينضب، في السفر كما في الحضر.
فمن يسير بعيدًا عن ربه، يَضِلّ ويتعب، ويقسو عليه الطريق، بينما الذي معه ربه لا يخاف ولا يَهِن.
تذكّر أن الذي يحفظك في الغيم، هو الذي حفظك في الأرض "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ"، وإذا هبطت واديًا فسَبِّح وإذا علوتَ مرتفعًا فكَبِّر، وفي البخاري عَنْ جَابِرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: «كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا».
وإذا دخلت بلدًا لا يعرفك أهله؛ فعليك بحسن الشمائل وأدب الفضائل، فإنه يُكسب المحبة، ويُديم المودة، وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فِعْلك، ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والمروءة، وليكن عقلك وزيرك، واحبس هواك عن الرّدى، وأطلقه في المكارم؛ فإنك تبرّ بذلك سلفك، وتشيد به شرفك؛ "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
والأرض كلها لله؛ فلا تُظْهِر فيها إلا ما تحب أن تشهد لك به... قَرَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[الزلزلة: 4]؛ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا". فمن نأى عن بلدٍ لا يُرفَع فيها أذانٌ، ولا يرى فيها محتشمُ؛ سيُكتب عليه ذلك.
السفر مرآة، يُظهر أجمل ما فينا، ويكشف أضعف ما فينا.
السفر ترويح من عناء عمل، ونشاط بعد كسل.
السفر يُكسب التجارب. ويجلب المكاسب، ويشد الأبدان، ويُسلِّي الأحزان، ويطرد الأسقام، يزيده علماً، ويفيده فهماً؛ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)[الحج: 46].
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحَيِّ مخلقٌ *** لديباجتيه فاغتربْ تتجددِ
فإِني رأيتُ الشمسَ زيدَتْ محبةً *** إِلى الناسِ أن ليست عليهِمْ بسرمَدِ
وفي محكم التنزيل: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[المزمل: 20].
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا *** وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَريج هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ *** وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
والسفر متعة للنفس إذا لم يُرهقها بالديون من أجله، والسعادة ليست بمجاراة الغير، والأنس ليس بخرم المروءة، والتحضر لا يحصل بضياع حشمة الأهل وحيائهم ونزع حجابهم.
فليس كلّ مَن يركب الطائرة سعيدًا، وليس مَن بقي في بيته فقير الشعور، أو حبيس الحياة.
كم من إنسان طاف البلدان، وعاد فارغ القلب!
وكم من آخر جلس في ركن بيته، فامتلأت روحه بالسكون؛ لأن السعادة لا تُحزم في حقيبة سفر، بل تسكن في أعماق النفس الراضية.
فمن قال: إن السعادة مرهونة بجواز سفر؟ وهل كانت سعادة إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في النار، أقل من سعادة مَن يسكن القصور؟ وهل كانت سكينة النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، أقل من متعة مَن يسكن فنادق العالم؟
السفر يُبهج العين، لكن الرضا يُبهج القلب.
والراحة في القلب أغلى من كل مطارات الدنيا.
من رضي، سافر بقلبه وإن بقي مكانه. ومن سخط، سيبقى تائهًا، ولو اجتمع له كل ما في الأرض من متاع؛ (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء: 77].
أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.
أما بعد: فإنّ أجمل أنواع السفر وأعلاها أثرًا في إسعاد النفس والأهل، ليس السفر الذي يُبهر، بل الذي يُثري... فليس المهم "أين تسافر"، بل "لماذا تسافر"؟
فالكثير يظن أن السعادة في السفر مرتبطة بالأماكن البعيدة، وبالفنادق الفاخرة، والمطارات المزدحمة. غير أن الحقيقة أعمق من ذلك: فالسفر الذي يُسعِد حقًّا، ليس ما يُفرّق المال، بل ما يقرّب القلوب، ويملأ الأرواح رضىً ومعنى.
فما أجمل أن يكون جزء من السفر طريقًا إلى صلة الرحم، حين تحمل أبناءك وتسير بهم إلى قريبٍ اشتاق لرؤيتهم، أو صاحبٍ ورفيق نائت به الديار... سافر سلمان -رضي الله عنه- لزيارة آل أبي الدرداء، بعدما فتحت البلدان وتفرَّق الصحابة في الأمصار. وسار أبو موسى الأشعري إلى اليمن لزيارة أخيه معاذ بن جبل –رضي الله عنهما-.
في مثل هذه السفر تُروى صلة، وتُشبع عاطفة، ويقال لكم: طاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة نزلاً.
وما أجلّ السفر إلى بيت الله الحرام، حيث تُنسى الدنيا تحت ظلال الكعبة، وتذوب الهموم في طوافٍ حول البيت العتيق، وزيارة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طيبة الطيبة، فتعود وفي قلبك نور، وفي بيتك بركة، وفي سجلك ذنوب قد مُحيت. فكم آلاف من أجور الصلوات حُزْتَ، وآيات من كتاب الله قرأت... فهل هناك سعادة تُضاهي هذا السفر؟!
فإن كانت نيتك طيبة، ومقصدك نبيلاً، فكل خطوةٍ ستكون عبادة، وكل لحظةٍ سعادة.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة وهداية للعالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم