اقتباس
ثم إن عاقبة الخذلان إلى خذلان، فإن القاعدة المقررة تقول: "الجزاء من جنس العمل"، وتقول: "كما تدين تدان"، فمن خذل أخاه خذله الله، ومن نصر أخاه نصره الله، ومن منا ينسى قصة هذا المثل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؛ فمن أسلم إخوانه إلى...
في هذه الحلقة من "سلسلة الأخلاق المذمومة"، -والتي قد سبقتها حلقات عدة- نتناول خلقًا مذمومًا جديدًا، وهو "خلق الخذلان".
ولعل أقسى شعور على الإنسان هو الشعور بالخذلان، خاصة عند حاجته وعوزه وعجزه وفقره واستغاثته، وخاصة أيضًا حين يكون من خذلوه هم أقرب الناس إليه وأولى الناس به؛ من كان يتوقع منهم نصرته، إنها حرقة يشعر بها الإنسان في جوفه، وحسرة يتجرعها المرء في قلبه، وغصة يعاني منها المخذول في حلقه، حين يرى أقرب الناس إليه وهم يطرحونه ويخذلونه ويسلمونه لعدوه!
يخادعني العدو فما أبالي *** وأبكي حين يخذلني الصديق
إننا قد عهدنا أن يأتي الخذلان من الشيطان، تمامًا كما قرر القرآن الكريم: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[الفرقان: 29]، وهذا نموذج عملي يوم بدر: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ)[الأنفال: 48]؛ قال ابن عباس في هذه الآية: "لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أن أحدًا لن يغلبكم، وإني جار لكم، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة.. رجع مدبرًا"(تفسير ابن كثير).
وتعوَّدنا كذلك أن يأتي الخذلان من المنافقين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ)[الحشر: 11-12].
أما أن يأتي الخذلان من المسلمين، فذلك ما لم نعهده أو نتعوده أو نقبله أو نستسيغه أبدًا أبدًا أبدًا... فإن المسلم الحق لا يكون مطلَقًا خذولًا لإخوانه المسلمين؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"(رواه مسلم) "قال العلماء: الخذل ترك الإعانة والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي"(شرح محمد فؤاد عبد الباقي)، وعند البخاري: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"؛ أي: لا يظلمه هو، ولا يتركه ويتخلى عنه ليظلمه الناس!
نعم؛ لا يكون المسلم أبدًا خذولًا لإخوانه، كيف وقد جعل الله -عز وجل- نصرتهم عليه فريضة: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ..)[الأنفال: 72]؛ "يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون.. عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم"(تفسير القرطبي).
والسبب في أن المسلم أبعد ما يكون عن خذلان إخوانه: هو أنه مأمور بعكس ذلك، فإن دينه علَّمه خلاف ذلك تمامًا، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك بين أصابعه(متفق عليه)، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(متفق عليه)، وفي لفظ لمسلم: "المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى، رأسه اشتكى كله".
***
ثم إن عاقبة الخذلان إلى خذلان، فإن القاعدة المقررة تقول: "الجزاء من جنس العمل"، و"كما تدين تدان"، وقد ورد بسند ضعيف: "ما من امرئ يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته"، فمن خذل أخاه خذله الله، ومن نصر أخاه نصره الله.
ومن منا ينسى قصة هذا المثل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؛ فمن أسلم إخوانه إلى ظلم الأعداء، فإن هؤلاء الأعداء سيسحقون إخوانه ثم يعدون لا محالة فيسحقونه هو، وعندها يردد في حسرة وندامة -حين لا تجدي الحسرات-: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
ومع خذلان المسلمين يأتي -أيضًا- الذل والمهانة؛ فعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ومع الذل والمهانة يأتي العذاب من الله -والعياذ بالله-؛ فعن أبي بكر الصديق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب"(رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني)، مصداق ذلك من كتاب الله -عز وجل- قوله -سبحانه-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)[التوبة: 38-39].
***
والعكس بالعكس، والضد بالضد؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(رواه مسلم).
وهذا نموذج حي نابض لنصرة المسلم لأخيه المسلم وقع سنة (223هـ)، يحكيه ابن الأثير في كتابه: "الكامل في التاريخ"، فيقول: "لما خرج ملك الروم، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر إلى المعتصم، فلما بلغه ذلك استعظمه وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته... ثم سار فعسكر بغربي دجلة... فلما ظفر المعتصم ببابك قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. فسار المعتصم... وتجهز جهازًا لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح، والعدد، والآلة" وفتحها ولبى نداء امرأة استغاثت به، ولم يسلمها ولم يخذلها ولم يتلهى بدنياه عنها.
يدنس عرض مسلمة وترمى *** ويلطم وجهها وغد حنيق
وتتبعها ملايين الضحايا *** تذوق من المآسي ما تذوق
وكم من مسجد أضحى ركامًا *** وفي محرابه شب الحريق
هنالك ألف باكية تنادي *** أفيقوا يا أحبتنا أفيقوا
ولقد أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه رغم الخذلان الذي قد ملأ الدنيا، فإنه يحيا على وجه هذه الأرض أقوام لا يضيرهم الخذلان ولا يضعضعهم لو تخلى عنهم العالم كله؛ لأنهم مستمسكون بربهم مؤمنون بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)... وهم الذين ذكرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(رواه مسلم).
***
وبقي أن نُعرِّف: ما هو الخذلان؟ وما درجاته؟ وما هي عواقبه؟ وهل نصرة المظلومين واجبة على إخوانهم؟... هذه الأسئلة وغيرها قد أجاب عنها خطباؤنا، وفصَّلوا القول فيها، وقد جمعنا هنا شيئًا من خطبهم لعلها تكون سببًا في التحذير من تلك الآفة الخطيرة؛ آفة الخذلان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم