عناصر الخطبة
1/فضائل عشر ذي الحجة 2/مواسم الخيرات وأعمار الأمة 3/الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة 4/فضائل الحج 5/مناسك الحج وأعماله.اقتباس
فإذا عزمت فتوكل على الله، وأخلص النية لله، واستخر واستشر ووفر المؤنة لأهلك من بعدك وأوصهم بتقوى الله، واعزم على أن تتوب وتجدد التوبة، وحُجّ بنفقة حلال، واختر الرفقة الصالحة، ووطّن نفسك على مشقة السفر والحج، وغضّ بصرك عما حرم الله، وتعلم أحكام الحج والعمرة حتى تعبد الله على بصيرة،...
الخُطْبَة الأُولَى:
إن الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
عباد الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
جاءكم موسم الخير، موسم العشر من ذي الحجة، جاء في نهاية العام ليكون الختام مسكًا، وليتنافس المتنافسون، كرم من الله وفضل من الكريم عطاء ومنة ورحمة ورأفة، عشرة أيام مدحها الله ورفع قدرها ومنزلتها، وضاعف ثواب العمل الصالح فيها، فرصة قد لا تأتي عليك فاغتنمها وعظّمها واقدر قدرها، الله -تعالى- غنيّ عنّا وليس بحاجتنا ولا بحاجة عبادتنا، إن اطعناه كلنا ما زاد في ملكه شيء، وإن عصيناه كلنا ما نقص من ملكه شيء.
وما جعل الله هذه المواسم وما كررها علينا إلا رحمة بنا وإلا رأفة بنا، وإلا ليضاعف الحسنات ويزيد في الأجور، فما أرحمه وما أرأفه وما أطيبه وما أكرمه!
أعمار هذه الأمة أقصر أعمار الأمم، كانوا قبلنا يعيشون مئات السنين، أما نحن فقليل من يتجاوز السبعين؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ، وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ"(أخرجه الترمذي وابن ماجه)، لكن المؤمن والعاقل واللبيب قد يستغل مثل هذه المواسم يستغلها ويستثمرها لا تفوته ولا يسمح بفواتها فيعوضه الله ويرزقه الله حسنات لا يحصدها غيره إلا في مئات السنين، يصوم رمضان إيماناً واحتساباً فيغفر الله له ما تقدم من ذنبه. ويقوم ليلة القدر فيرزقه الله فعلاً يوازي ألف شهر كأنه عبَد اللهَ أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
وتأتي عليه العشر فلا يفوته حصادها وغنيمتها، وهكذا يبارك الله في الأعمار ويرزق المسددين أعماراً طويلة بسبب اجتهادهم في مواسم الخير والبركة، وهذه العشر عشر ذي الحجة عظَّمها الله وحثَّنا على تعظيمها واغتنامها، أخبرنا سبحانه بأنه يضاعف الأجور والحسنات، أقسم بها لشرفها فقال -تعالى-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[سورة الفجر: 1-2]، وقال -سبحانه-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[سورة الحج: 28]؛ قال ابن عباس: "أيام العشر".
وفي البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذِه؟ قالوا: ولَا الجِهَادُ؟ قَالَ: ولَا الجِهَادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ"(صحيح البخاري).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيَّامٍ أَعظَمَ عِندَ اللهِ، ولا أَحَبَّ إلَيهِ مِنَ العملِ فيهِنَّ مِن هذِه الأَيَّامِ العَشرِ؛ فأَكثِرُوا فيهِنَّ مِنَ التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ".
قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "لا تطفئوا سُرجكم ليالي العشر"؛ كناية عن القراءة والقيام والذكر.
إنها أيام ذِكْر الله، أيام طاعة، أيام فاضلة، إنها ليست كغيرها من الأيام أبداً؛ هذه أيام مميزة، هذه أيام يحبها الله، ويحب العمل الصالح فيها؛ (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[سورة الحج: 32].
إنها فرصة للتوبة وترك الذنوب والتخفّف منها، فرصة للرجوع إلى الله، فلا منجا من الله إلا إليه، والعبد لا يدري قد يكون هذا آخر أعوامه وآخر عمره؛ فجعل الله هذه العشر محطة توقف للمحاسبة والمراجعة والتأمل، وإعادة الحسابات، وتصحيح المسارات، والصدق مع النفس، فنتوب إلى الله، نعود إلى الله، نصلي صلاتنا، ونصل أرحامنا، ونطهر قلوبنا من الحسد والحقد والضغينة والشك والشرك والهوى، نطهّر جوالاتنا من الصور والمقاطع والمواقع والقروبات الفاسدة حتى لا نموت وفيها ما يشهد علينا، نتوب إلى الله مِن ترك الصلاة والتهاون فيها، خلاص يكفي، انتهى العام جاء موسم العمل الصالح، وهكذا نأطر أنفسنا على الخير أطراً حتى تنقاد لنا.
كذلك من أعمال هذه الأيام الصيام؛ فعن بعض زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشورا، وثلاث أيام من كل شهر"(صحيح سنن أبي داود وصححه الألباني). وقال النووي عن صيامها: إنه مستحب استحباباً شديداً.
وصيام يوم عرفة متأكد لغير الحاج؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ"(صحيح مسلم)، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبدٍ يصومُ يومًا في سبيلِ اللَّهِ -عزَّ وجلَّ-، إلَّا بعَّدَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- بذلِكَ اليومِ وجهَهُ عنِ النَّارِ ، سبعينَ خريفًا"(متفق عليه).
ومن الأعمال المشروعة: التكبير والتهليل والتحميد؛ فقد أورد البخاري -رحمه الله-: "كان ابنُ عُمرَ وأبو هُرَيرَة يَخرُجانِ إلى السوقِ في أيَّامِ العشرِ يُكبِّرانِ، ويُكبِّر الناسُ بتكبيرِهما"، وقال: "كان عمر -رضي الله عنه- يُكبِّرُ في قُبَّتِه بمنًى، فيَسمَعُه أهلُ المسجدِ، فيُكبِّرونَ، فيكبِّرُ أهلُ الأسواقِ، حتى تَرتجَّ مِنًى تكبيرًا"، ويُستحب التكبير جهراً للرجال خلف الصلوات وفي المجالس وفي ختامها وفي البيت وفي الفراش.
وقراءة القرآن من الأعمال الفاضلة في هذه العشر؛ فالحرف الواحد بعشر حسنات، كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس ثم صلاة ركعتين وهي كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "تعدل عمرة وحجة تامة تامة"، وهذه الأجور في أيّ يوم من الأيام فكيف بأيام العشر؟
وكذلك الصدقة: قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"(متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: وذكر منهم ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُه"(متفق عليه)، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر؛ فإن الله يدفع بها أنواعاً من البلاء".
وأعظم الصدقة على ذوي القربى والرحم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ وعلى القريب صدقتان: صدقةٌ وصِلَةٌ"(صحيح الترغيب للألباني).
وكذلك صلة الرحم وبر الوالدين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغض البصر، وحسن الجوار وحفظ الجوارح، والإحسان إلى الخلق.
ومنها ترك الأظافر والشعر والبدن وعدم الأخذ منها في هذه العشر لمن أراد أن يضحي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره"(رواه مسلم)، والمرأة والرجل في ذلك سواء، وفي لفظ آخر: "إذا دخَلَت العَشْرُ، وأراد أحَدُكم أن يضَحِّيَ؛ فلا يَمَسَّ مِن شَعَرِه وبَشَرِه شيئًا"(رواه مسلم).
وأما أهل البيت من النساء والولدان فلم يرد النهي عنهم.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اجعلنا من المقبولين والتائبين والذاكرين والمستغفرين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
عباد الله: أما أهم أعمال هذه العشر؛ أهمها على الإطلاق وأعظمها فهو الحج إلى بيت الله الحرام (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[سورة الحج: 27]، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: 97].
أورد ابن كثير في تفسيره: "أن إبراهيم -عليه السلام- قام على الصفا، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه؛ فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأصلاب والأرحام".
والحج ركن من أركان الإسلام، وهو واجب على المستطيع مرة واحدة في العمر، فمن لم يحج فعليه المبادرة قبل أن يحول بينه وبين الحج الموت أو المرض أو الفقر؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَجَّلُوا إلى الحَجِّ، فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدرِي ما يَعرِضُ لَهُ"(أخرجه أحمد).
قال عمر -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل مَن كان له جِدةٌ ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين"(رواه سعيد بن منصور في سننه وصححه ابن حجر في التلخيص موقوفاً).
فيا من يستطيع الحج، ولم يحج ما يقعدك ماذا تنتظر والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بادروا بالأعمال"(صحيح مسلم)، ماذا تنتظر؟! هل أنت العام القادم فوق التراب أم تحته؟!
قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ"(متفق عليه)، رجع كيوم ولدته أُمّه، لا ذنب ولا إثم ولا خطيئة، بريء من الذنوب، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة"(رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمِ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"(رواه مسلم)، ويقول -سبحانه كما في الحديث القدسي-: "إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شُعثاً غُيراً"(صحيح الترغيب للألباني).
فإذا عزمت فتوكل على الله، وأخلص النية لله، واستخر واستشر ووفر المؤنة لأهلك من بعدك وأوصهم بتقوى الله، واعزم على أن تتوب وتجدد التوبة، وحُجّ بنفقة حلال، واختر الرفقة الصالحة، ووطّن نفسك على مشقة السفر والحج، وغضّ بصرك عما حرم الله، وتعلم أحكام الحج والعمرة حتى تعبد الله على بصيرة، واسأل أهل العلم فيما جهلت.
وإذا أحرمت فلا تتطيب ولا تلبس المخيط، ولا تغطِّ رأسك ولا تقتل صيد البر ولا تعقد النكاح.
ويجوز لك أن تغتسل وتغسل إحرامك أو تبدله، ويحل للمرأة أن تلبس ما شاءت من الثياب غير ثياب الزينة، ولا تلبس البرقع ولا النقاب ولا جوارب اليدين، وتلبس جوارب القدمين وهو الأولى.
واحرِم من الميقات ولا يجوز لك أن تتعداه، وعليك الرجوع إليه إذا تجاوزته بدون إحرام، وإذا أحرمت من بعده فعليك دم تذبحه في مكة وتطعمه الفقراء.
وارمل في الثلاثة أشواط من طواف القدوم، وصلّ ركعتين في أيّ مكان من الحرم، ولا تخصّ كل شوط بدعاء، بل ادع الله بما تشاء، وليس مشروعاً أن تصعد إلى جبل عرفة، وعليك أن تحلق رأسك وهو الأفضل أو تُقصّره كله، وأكثر من التلبية بعد إحرامك، واستغفر ربك وأتقن حجك، والمرأة تقص من رؤوس ضفائرها بمقدار رأس الإصبع.
وإذا نويت فأدخل في أحد الأنساك الثلاثة، ويجوز أن تقدم سعي الحج مع طواف القدوم، وتؤخر طواف الإفاضة مع طواف الوداع.
اللهم اجعلنا من المقبولين ولا تردنا خائبين، وسلم الحجاج والمعتمرين، اللهم احفظهم من بين أيديهم، ومَن أراد بالحج أو الحجاج سوءًا فاكشف أمره واجعله عبرة، وأعمِ بصره وشلّ يده واقصم ظهره وعطل عقله.
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم