عناصر الخطبة
1/تفاوت الناس في مكاسبهم 2/تفريط بني إسرائيل فيما أنعم الله عليهم 3/إيلاف النعم يقللها في عين صاحبها 4/أعظم النعم نعمة الإسلام 5/الحث على استشعار النعم وشكرهااقتباس
إِنَّ مِنْ أَوْجَبِ ما يَجِبُ على الإِنْس والجِنِّ أَنْ يَسْتَقِيْمُوا عليه، هُو إِفرادُ اللهِ بالعِبادَةِ، وأَنْ لا يُشْرِكُوا باللهِ شَيئاً، كَما يَجِبُ على المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعاً أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلى غَيْرِ اللهِ، فَسأَلَهُ شَيئاً مِن المَطالِبِ التِيْ لا يَقْدِرُ عليها إِلا اللهُ فَقَدْ أَشْرَكَ باللهِ، وكذا مَنْ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: يَقِفُ العَقْلُ حَائِراً مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الوحِيِ دَلِيْل، العَقْلُ عَيْنُ تُبْصِرُ والوَحِيُ نُورٌ يُضِيءُ، فَإِذا ابْتَعَدَ العَقْلُ عَنْ نُورِ الوَحِيِ تَخَبَّطَ في الظُلُمات؛ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور: 40].
أَمَرَ اللهُ العِبادَ بِالتَّفَكُّرِ والتأَمُلِ والتَدَبُّرِ وإِعْمالِ العُقُولِ، وَنَهاهُم عَن الغَفْلَةِ البَلادَةِ والسَّذاجَةِ والخُمُول، وما قِيْمَةُ العَقْلِ إِذا تَعَطَّلَ، وما قِيْمَةُ العَقْلِ إِذا انْحَرَف؛ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج: 46]، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[النحل: 12].
ويُتَّفِقُ العَقْلُ الصَرِيْحُ مَعَ النَّصِّ الصَّحِيْحِ، فَلا تَنافُرَ بَيْنُما ولا اخْتِلاف، دِيْنٌ يُوافِقُ الفِطْرَةَ التِيْ فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عليها، وَأَعْظَمُ مَا دَعَا إِليهِ الوَحِيُ، وأَعْظَمُ ما صَدَّقَتْهُ الفِطْرَةِ، هِوَ تَحْقِيْقُ التُوْحِيْدِ للهِ، فَما أَرْسَلَ اللهُ نَبِياً ولا رَسُولاً إِلا لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلى إِفْرادِ اللهِ بالعِبادَةِ، دَعْوَتِهِم إِلى لُزُومِ الفِطْرَةِ التِيْ فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عليها؛ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36]، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25].
والعَاقِلُ يُدْرِكُ أَنَّ اللهَ -سُبحانَهُ- ما خَلَقَ شَيئاً في الوُجُودِ إِلا لِحِكْمَةٍ، ولَئِنْ غَابَتْ عَنْ العُقُولِ أَكْثَرُ الحِكَمِ الإِلهيةِ، فَلَنْ تَغِيْبَ عَنْها تِلْكَ الحِكْمَةُ الجَلِيَّةُ التِي أَثْبَتَها اللهُ في القُرآنِ، وبَيَّنَها أَتَمَّ بَيان، الحِكْمَةُ مِنْ خَلْقِ اللهِ للإِنْسان؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
خَلَقَ اللهُ الجِنَّ والإِنْسَ وأَوْجَدَهُم في هذهِ الحَياةِ لِيَعْبُدوه وحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَه، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ أَحداً، فَقَدْ اسْتَنْكَفَ عَن القِيامِ بالمُهِمَّةِ التِيْ خَلَقَهُ اللهُ لأَجْلِها، وانْحَرَفَ عَن الصِراطِ الذِيْ أَمَرَهُ اللهُ بِلُزُومِه، ومَنْ اسْتَنْكَفَ عَنْ إِفْرادِ اللهِ بالعِبادَةِ، فَقَدْ أَحَلَّ نَفْسَهُ دَارَ الْبَوَارِ، حَرامٌ أَنْ يَنالَ رَحْمَةَ اللهِ، وحَرامٌ أَنْ تُدْرِكَهُ مِنَ اللهِ مَغْفِرَةٌ؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[النساء: 48]، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72].
تَوْحِيْدُ اللهِ هُو أَعْظَمُ عِبادَةٍ يَتَقَرَّبُ العَبْدُ بِها، والشِّرْكُ باللهِ هُوَ أَعْظَمُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الإِنْسانُ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ أَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ كُلَّه، ولَو بَذَلَ في الخَيرِ كُلَّ مالٍ، ولَو أَنْفَقَ في المَعْرُوفِ كُلَّ نَفِيْسٍ، ولَو نَاصَرَ في الحَقِّ كُلَّ قَضِيَّةٍ، ولَو دَافَعَ عَنْ المَظْلُومِ، ولَو وَقَفَ في صُفُوفِ المُسْتَضْعَفِيْن، التَوْحِيْدُ هُو أَصْلُ العِبادَةِ وأَساسُها، فإِذا انْهارَ الأَساسُ، تَهاوى كُلُّ بِناءٍ أُقِيْمَ عليه؛ (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[الفرقان: 23].
إِذا فَسَدَ التَوْحِيْدُ فَسَدَ بَعْدَهُ كُلُّ عَمَل، حُكْمٌ حَكَمَ اللهُ بِه فَلَيْسَ للعَبْدِ فِيهِ خِيارٌ، قَال اللهُ لِنَبِيهِ مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر: 65]، ولَما أَثْنى اللهُ على جُمْلَةٍ مِنْ الأَنْبياءِ والمُرْسَلِيْنَ وعَدَّدَّ مَناقِبَهُم، أَعْقَبَها بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 88]، فَمَا ظَفِرَ الشَيْطانُ مِنَ عَبْدٍ بِذَنْبٍ، أَعْظَمُ مِنْ ظَفَرِهِ بانْحِرافِهِ عَنِ التَوْحِيد؛ (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)[النساء: 119]، في الحَدِيْثِ القُدْسِيِّ قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَل-: "وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ -أَيْ مُوَحِّدُين- وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا"(رواه مسلم).
الشِّرْكُ باللهِ أَعْظَمُ ذَنْبٍ وَقَعَ في الأَرْضِ، وأَعْظَمُ ظُلْمٍ اقْتَرَفَهُ الإِنْسانُ؛ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، والشِّرْكُ: هُوَ أَنْ يَصْرِفَ العَبْدُ شَيئَاً مِن العِبادَةِ لِغَيْرِ اللهِ، وأَنْ يجْعَلَ للهِ مَثَيْلاً وشَبِيْهاً ونِدّاً، يَتَوَجَّهُ إِليهِ في مَقاصِدِهِ وحاجَاتِهِ، وفي مَسأَلَتِهِ والاسْتغاثَةِ بِهِ ودُعائِه، وفي مَحَبَّتِهِ وتَعْظِيْمِهِ وخَوْفِهِ ورَجائِهِ، واللهُ هُو الأَحَدُ الصَّمَدُ، الذي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَد، ولَمْ يَكْنُ لَهُ كَفْواً أَحد؛ (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 22]، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ"(متفق عليه)، والنِّدُّ: هُوَ المَثِيْلُ والنَظِيْر.
فَكَيْفَ تَقْصِدُ بالعِبادَةِ غَيْرَ اللهِ وهُو الذِيْ خَلَقَك، وكَيْفَ تَسأَلُ مَطالِبَكَ مِنْ سواهُ وهُو الذِي أَحْياكَ وأَوْجَدَكَ؟! (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء: 78 - 82]، وما اجْتَرأَ مُجْتَرِئٌ على عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، إِلا بَعْدَ أَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطانُ عَمَلَهُ، وسَوَّغَ لَهُ أَهْلُ الضَلالِ ذَلِكَ، فالمُشْرِكُونَ الذِيْنَ نَزَلَ القُرآنُ في زَمَانِهِم، لَمْ يَكُونُوا يَجحدونَ رُبُوبِيَّةَ اللهِ، ولَمْ يَكُونُوا يَجْحَدونَ تَفَرُّدَهُ بالخَلْقِ والتَّدْبِيْر؛ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[لقمان: 25]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[العنكبوت: 63]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)[الزخرف: 87]، ولَكِنَّهُم يُشْرِكُونَ مَعَ اللهِ في العِبادَةِ غَيْرُهُ، ويَقُولُون كَما زَيَّنَ الشَيْطانُ لَهُم؛ (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)[الزمر: 3]، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)[يونس: 18].
فَما زَالَ القُرآنُ يَهِدِمُ تِلْكَ المَزاعِمَ، وَيَنْسِفُ تِلْكَ الأَباطِيْلَ، حَتَى لَمْ يُبْقِ لِذِيْ هَوَىً شُبْهَةً يَتَعَلَّقُ بِها، ولَمْ يُبقِ لِذِيْ ضَلالَةٍ سِتاراً يَتَخَفَّى فِيْه؛ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا)[الإسراء: 56]، (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الأعراف: 194]، (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر: 13 - 14].
ولا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُشْرِكَ العَبْدُ مَعَ اللهِ شَجَراً أَمْ حَجَراً، أَمْ شَمْساً أَم كَوكَباً أَمْ قَمَر، أَمْ مَلَكاً أَمْ جِناً أَمْ بَشَر، أَمْ نَبِياً أَم صَالحاً أَمْ ولِياً، كُلُّ مَنْ سِوى اللهِ فَهُو عَبْدٌ للهِ خاضِع، لا يَمْلِكُونَ في الكَونِ مِنْ قِطْمِيْر، أَكْرَمُ الخَلْقِ على اللهِ مُحمدٌ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ اللهُ إِليهِ قَوْلَهُ: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ)[الجن: 21 - 23]، فَكِيْفَ بِمَنْ هو أَدْنَى مِن الرَّسُولِ مَقاماً؟! (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 41].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: أَقامَتِ الشَّرِيْعَةُ سِياجاً مَنِيْعاً، يَحِمِيْ قَلْعَةَ التُوْحِيْد في قَلْبِ المُؤْمِنِ أَنْ تُسْتَباح، وَيُحْكِمُ أَبْوابَ العَقِيْدَةِ في قَلْبِهِ أَنْ تُقْتَحَم، سَدَّتْ الشَّرِيْعَةُ كُلَّ بابٍ قَدْ يُفْضِيْ إِلى الشْرْكِ، ومَنَعَتْ كُلَّ طَرِيْقٍ قَدْ يَنحِدِرُ عَنْ التَوْحِيْد، فَحَرَّمَ الإِسْلامُ أَنْ تُعَظَّمَ القُبُورَ، وحَرَّمَ أَنْ يُبْنَى عليها، خَشْيَةَ أَنْ تَتَعَلَّقَ القُلُوبُ بأَصْحابِها، عَنْ جُندُبِ بنِ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: سَمِعْتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُوْلُ: "أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"(رواه مسلم).
هَلَكَ قَوْمٌ خالَفَوا أَمْرَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَيَّدُوا الأَضْرِحَةَ على قُبُورٍ، فَصَارَتْ مَزاراتٍ وأَوْثاناً تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، لَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لِكَثِيْرٍ مِن النَّاسِ الأَعْمَالَ المُفْضِيَةِ إِلى الشِّرْكِ، ويَحَسِّنُ لَهُمْ طَرائِقَها، وما زَالَتِ الشَّرِيْعَةُ، تُوصِدُ تِلْكَ الأَبُوابَ وتُغْلِقُ مَنافِذَها، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى حُنَيْنٍ -وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ-، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"(رواه الترمذي وصححه)، قَالَ ابنُ تَيْمِيةَ -رحمَهُ اللهُ-: "أَنْكَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُجَرَّدَ مُشَابَهَتِهِمْ لِلْكُفَّارِ في اتَّـخَاذِ شَجَرَةٍ يَعْكُفُوْنَ عَلَيْهَا مُعَلِّقِيْنَ عَلَيْهَا سِلاحَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مُشَابَـهَتِهِمْ المُشْرِكِيْنَ، أَوْ هُوَ الشِّرْكُ بِعَيْنِهِ؟!".
فَتَعْظِيْمُ الأَماكِنِ والبُقَعِ التِيْ لَمْ تأَتِ الشَّرِيْعَةُ بِتَعْظِيْمِها، وإِبرازُ الآثارِ والمَعالِمِ التِيْ تَتَعَلَّقُ بَعْضُ النُفُوسِ بِها، ورَفْعُ صُورَ العُظَماءِ، ونَحْتُ التَماثِيِلِ لذواتِ الأَرْواحِ، كُلُّها وَسائِلُ قَدْ تُفْضِيْ إِلى الشِّرْكِ ولَو بَعْدَ حِيْن، جَاءَتِ الشَّرِيْعَةُ بِمُحارَبَتِها، عَنْ أَبِيء الهيَّاجِ الأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟: "أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ"(رواه مسلم).
عبادَ الله: إِنَّ مِنْ أَوْجَبِ ما يَجِبُ على الإِنْس والجِنِّ أَنْ يَسْتَقِيْمُوا عليه، هُو إِفرادُ اللهِ بالعِبادَةِ، وأَنْ لا يُشْرِكُوا باللهِ شَيئاً، كَما يَجِبُ على المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعاً أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلى غَيْرِ اللهِ، فَسأَلَهُ شَيئاً مِن المَطالِبِ التِيْ لا يَقْدِرُ عليها إِلا اللهُ فَقَدْ أَشْرَكَ باللهِ، وكذا مَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللهِ، وكذا مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله، وكذَا مَنْ اسْتَغَاثَ بِغَيرِ اللهِ، وكذا مَنْ طَلَبَ العَوْنَ المَدد مِنْ مَيِّتٍ أَو غَائِبٍ أَو مَلَكٍ أَو نَبِيٍّ أَو وَلِيٍّ، فَقَدْ أَشْرَكَ باللهِ وإِنْ سَمَّى عَمَلَهُ بِغَيْرِ اسْمِ الشِّرْكِ، وإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُتَوَسَلُّ إِلى اللهِ بِأُوْلَئِكَ؛ (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 14].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم