في وداع العام: محاسبة وعظة

أسامة بن عبدالله خياط

2025-06-20 - 1446/12/24 2025-06-21 - 1446/12/25
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/خصوصية وقفة الوداع وتأثيرها في نفس المسلم 2/أخذ العبرة والعظة من مرور الأيام والأعوام 3/وجوب محاسبة النفس 4/الآثار الحسنة لمحاسبة النفس 5/محاسبة النفس دليل على كمال العقل

اقتباس

إنَّ وقفةَ المحاسَبة للنفس من أوضح الأدلة على كمال عقل المرء، وتمام حرصه على أسباب سعادته، وبواعث نُجْحِه في كل ما يأتي وما يذر، وإنها لَوقفةٌ لا مناصَ لكل لبيب من أن يقفَها مع نفسه عقبَ كل عمل، وعند منتهى كل مرحلة، وفي ختام كل شوط...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ مُصرِّفِ الأحوالِ مُدبِّرِ الأمورِ، رب المشارق والمغارب لا إله إلا هو العزيز الغفور، أحمده -سبحانه-، الحي القيوم على مر العصور وكر الدهور، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوث إلى الناس كافَّة بالهدى والنور، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه، الذين أخلصوا لله يرجون تجارة لن تبور، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والجزاء والنشور.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة بتوحيده وذِكْره وشكره وحُسْن عبادته، والنزول على حكمه، ولا تغرَّنَّكم الحياةُ الدنيا، ولا يغرَّنَّكم بالله الغرور.

 

أيها المسلمون: إن وقفة الوداع مثيرة للأشجان، مهيجة للأحزان؛ إذ هي مصاحِبة للرحيل، مُؤذِنة بانقضاء، مشعرة بانتهاء، ولقد مضى -يا عباد الله- من عمر الزمن عام كامل، تقلبت فيه أحوال، وفنيت فيه أعمار، ونزلت بالأمة فيه نوازل تقض لها المضاجع، وإذا كان ذهاب الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين غير مضي يوم ومجيء آخر، فإنَّه عند أولي الأبصار باعث حي من بواعي الاعتبار، ومصدر متجدد من مصادر العظة والادكار، يصور ذلك ويبينه أبلغَ بيان قولُ أبي الدرداء -رضي الله عنه- فيما رواه الحسن البصَريّ -رحمه الله- أنَّه قال: "يا بن آدم، إنما أنتَ أيام، فإذا ذهَب يوم ذهب بعضك"، ويصوره أيضًا قول بعض السلف: "كيف يفرح بمرور الأعوام من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وحياته إلى موته؟! ومن كانت الأيام والليالي مطاياه سارتا به وإن لم يسر".

 

عبادَ اللهِ: إن أُولِي الألباب يقفون عند وداع العام وقفة مراجَعة لله، ومحاسبة للنفس؛ للوقوف منها موقف التاجر الأريب من تجارته، ينظر إلى مبلغ ربحه وخسارته، باحثًا عن الأسباب، متأمِّلًا في الخطأ والصواب.

 

وإن سلوك المسلم الواعي هذا المسلك الرشيد، ليربو على ذلك، في شرف مقاصده، ونبل غاياته، وسمو أهدافه؛ لأنَّه سعي إلى الحفاظ على المكاسب الحقة التي لا تبور تجارتها، ولا يكسد سوقها، ولا تفنى أرباحها من كنوز الأعمال، ومن ذخائر الباقيات الصالحات، التي جعل الله لها مكانًا عليا، ومقامًا كريمًا، وفضلها على ما سواها فقال عز اسمه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الْكَهْفِ: 46]؛ ولذا كانت العناية بهذه المراجعة والحرص على هذه المحاسبة ديدن الأيقاظ، ونهج الراشدين، وسبيل المتقين، لا يشغلهم عنها لهو الحياة ولغوها وزخرفها وزهرتها وزينتها؛ فهم يقطعون أشواط الحياة بحظ موفور من التوفيق في إدراك المنى، وبلوغ الآمال، والظفر بالمقاصد، والسلامة من العثار، وعلى العكس منهم أولئك الغافلون السادرون في غيهم وغفلتهم؛ فإنهم لا يفيقون من سكرتهم للنظر في مغانمهم ومغارمهم، ولاستصلاح ما فرط منهم، والاعتبار بالمصائب، والاتعاظ بالنوازل، فهم ممن نسي الله فأنساه العمل لما فيه صلاحه وفلاحه في دنياه وعقباه، كما قال -سبحانه- محذِّرًا عباده من صنيعهم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الْحَشْرِ: 19].

 

عبادَ اللهِ: إن ارتباط المراجَعة والمحاسَبة بالتغيير نحو الأفضل والأكمل، وثيق العرى وطيد الصلات؛ إذ المراجَعة والمحاسَبة تُظهِران المرءَ على مَواطِن النقص، ومواضع الخلل، ومكامن العِلَل، فإذا صحَّ منه العزمُ وصلحت النيَّة واستبان الطريق وصدق ذلك العمل جاء عون الله بمدد لا ينفد، فأورَث حُسنَ العاقبةِ وكريمَ الجزاءِ؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 69].

 

وإن الحاجة إلى سلوك نهج المراجَعة والمحاسَبة -يا عباد الله- ليس مختصًّا بأفراد أو بطائفة من دون الناس، بل إن الأمة المسلمة بمجموعها مفتقرة إليه، ولا غناء لها عنه، وهي تودع عامًا منصرفًا، وتستقبل عامًا جديدًا، لكنها في حق الأمة مراجعة تتسع أبعادها، ويعم نطاقها، ويعظم نفعها ويبقى أثرها، وصدق -سبحانه- إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].

 

نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله مصرف الليالي والأيام، أحمده -سبحانه- على ترادُف الإنعام وتتابُع الإكرام، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه الأبرار الأتقياء الأعلام.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إنَّ وقفةَ المحاسَبة للنفس من أوضح الأدلة على كمال عقل المرء، وتمام حرصه على أسباب سعادته، وبواعث نُجْحِه في كل ما يأتي وما يذر، وإنها لَوقفةٌ لا مناصَ لكل لبيب من أن يقفَها مع نفسه عقبَ كل عمل، وعند منتهى كل مرحلة، وفي ختام كل شوط، إن أراد أن يستقيم له أمره، ويصلح له حاله، وتسلم له عاقبته ومآله، فيحظى بالفوز العظيم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ فاتقوا الله -عباد الله- واحرصوا على الاستدامة على هذه المراقبة المحكمة الصادقة، لاسيما وأنتم تستقبلون مرحلة جديدة من مراحل أعمالكم، وتستأنفون شوطًا آخر من أشواط حياتكم لا غناء لكم فيه عن ادكار واتعاظ بما مضى، وعزم على التصحيح والتخطيط لما بقي.

 

وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله؛ فقد أمرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، في العالمين إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا خير من تجاوز وعفا.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لِمَا تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه الخير العاجل والآجل للبلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع يوم المعاد.

 

اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.

 

اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنت وليها ومولاها، اللهمَّ أحسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 

اللهمَّ احفظ هذه البلاد حائزة كلَّ خير، سالمة من كل شر، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهمَّ حرر المسجد الأقصى، اللهمَّ احفظ المسلمين في فلسطين، اللهمَّ احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم، اللهمَّ كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا، اللهمَّ اشف جرحاهم، واكتب أجر الشهادة لقتلاهم، وأطعم جائعهم، واكس عاريهم يا ربَّ العالمينَ، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبضنا إليكَ غيرَ مفتونينَ، اللهمَّ اكفنا أعداءكَ وأعداءنا بما شئتَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ إنَّا نجعلكَ في نحور أعدائكَ وأعدائنا ونعوذ بكَ من شرورهم.

 

اللهمَّ اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغْنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِمْ بالباقيات الصالحات أعمالَنا؛ (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

آثار الصبر وفضائله.doc

آثار الصبر وفضائله.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات