عناصر الخطبة
1/بعض آثار القفزة التقنية الرقمية 2/جهود المملكة للاستفادة من التقدم التقني 3/أعراض مرض التعلق بوسائل التواصل الاجتماعي 4/وسائل منهجية للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي 5/التحذير من ذنوب ومعاصي الخلوات 6/على المسلم أن يعطي لكل ذي حق حقهاقتباس
من الشرور والآفات تلك الحسابات المزيَّفة المنتحَلة، التي تنقط سمومها في المجتمعات، وتنشر الفتن والافتراءات، وتختلق التصريحات والإشاعات، وتلفق على ألسنة العلماء فتاوى مكذوبة، في حملات مأجورة، وتشويهات متعمَّدة، لا تراعي دِينًا ولا خُلُقًا، ولا ينقضي العجب ممن انساق وراء تلك الحسابات من غير تثبُّت...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، نحمده على نعم تترى، وآلاء لا تُعَدّ ولا تُحصى، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أحاط بكل شيء علمًا، وجعَل لكل شيءٍ قدرًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، خير مَنْ سلَك ضروبَ الْهُدَى، وحذَّر الأمةَ مِنْ سُبُل الرَّدَى، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أولي النهى، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الجزاء.
أما بعدُ: فاتقوا الله حق التقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، قال -جل وعلا-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النَّازِعَاتِ: 37-41].
أيها الناسُ: تشهد البشريَّة في عصرنا قفزة حضاريَّة، وطفرة نوعيَّة، في مجالات التقنيَّة والأجهزة الزكيَّة، ووسائل التواصُل الرَّقْميَّة، فبها تيسرت الاتصالات، وطويت المسافات، واختصرت الأوقات، وأنجزت المهمات، وطورت الخدمات، وأتيح العلم عبر المنصَّات، فأضحت التقنيَّة جزءًا لا ينفك عن حياتنا، ولئن كانت الأمم تتسابق في مضمار التقنيَّة، فإن مملكتنا المبارَكة قد تميَّزت في رؤيتها، وسبقت بخطاها، فغدت رائدة في هذا المَيْدان، تستثمر التقنيَّة، وتوظفها في خدمة المجتمع والإنسان، حتى صارت أُنموذجًا يشاد به ويحتذى، في صورة مشرقة، ترسخ مكانتها العالميَّة في مجالات التقنيات المتقدِّمة.
ولقد برهنت بلادنا أن التقدُّم لا يتنافى مع القيم، ولا يتعارض مع المبادئ، بل ينهض بها، ويستند إليها، فارتقت دون أن تنفصل عن جذورها، وتقدمت دون أن تفرط بثوابتها، فيا لها من نعمة ربانية، ومنحة إلهيَّة، تستوجب الحمد والشكر، فالحمد لله الذي سخر لنا هذه الوسائل، وفتح لنا بها أبواب الخير والتيسير، ووفق قيادتنا الرشيدة إلى استثمارها وتطويرها.
عبادَ اللهِ: وإذا كانت هذه النعمة من أعظم النعم والمنن، وأبرز ملامح التمكين في هذا الزمن، فإن النعمة إذا وُضعت في غير موضعها صارت نقمةً وبلاءً؛ فالتقنية حين تفقِد وجهتَها، ويغيب الوعيُ عن مستخدمها تتحوَّل الأجهزةُ حينئذ إلى علائق، وتنقلب الوسائل إلى مزالق، ومن هنا برَز داءٌ ابتلي به بعض الناس، على اختلاف الأعمار والثقافات والأجناس؛ إنه داء التعلق المَرضيّ بوسائل التواصُل الاجتماعيّ، والانغماس في عالَم رَقْميّ لا ينتهي، وانقلبت الهواتف عند البعض من أدوات للوصال، إلى وسائل للانعزال والانفصال؛ فترى المرء بين الناس جسدًا بلا قلب، وجسمًا بلا لب، يتقلب بين المنصَّات، ويتصفح التطبيقات، تتقاذفه المواقع، وتكاثر عليه المقاطع، فلا يدري ما يريد، ولا جنى حب الحصيد؛ إنه فتنة مهلكة، يعيش المرء فيها تائها بلا أهداف، كزورق في لجة بلا بوصلة ولا مجداف، وكالمنبت لا أرضًا طوى، ولا ظهرًا أبقى، فيا خسارة أعمار تمر كالسحاب، وتنقضي بلا زاد ليوم الحساب.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"(رواه البخاري)، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن الموت يقطعك عن الدنيا، وإضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة".
أيها المسلمون: إن النفس إن لم تُشغَل بالطاعة اشتَغَلَتْ بالمعصية، لاسيما في زمن وسائل التواصُل الرَّقْميَّة، والتهافُت على الصُّوَر والعناوين اليوميَّة، وتزيين الصفحات الشخصيَّة، فترى المرء أسيرًا لأوهام لا تنقضي، ورهينا لأمنيات لا تنتهي.
وأسوأ من ذلك مَنْ يعيش في لحظات الآخَرين، ويضيع أيامه، ويراقب حياة الناس وينسى حياته.
وقد جاء التحذير في الشريعة من ذلك الانشغال المذموم، والسلوك المسموم الذي يفسد على المرء دينه، ويضيع عليه عمره؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(رواه الترمذي)، وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "إن أقوامًا جعلوا آجالَهم لغيرهم، ونسوا أنفسَهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالَهم".
ولْيُعْلَمْ -يا عبادَ اللهِ- أن وسائل التواصُل الاجتماعيّ غدت في الغالب مسرحًا للحياة الزائفة، وموطنًا للمقارَنات الجائرة، فدب إلى البعض داء الحسد والبغضاء، وسرى إلى قلوبهم السخط والشحناء، وقل الحمد والشكر على النعم والآلاء.
ومن الشرور والآفات تلك الحسابات المزيَّفة المنتحَلة، التي تنقط سمومها في المجتمعات، وتنشر الفتن والافتراءات، وتختلق التصريحات والإشاعات، وتلفق على ألسنة العلماء فتاوى مكذوبة، في حملات مأجورة، وتشويهات متعمَّدة، لا تراعي دِينًا ولا خُلُقًا، ولا ينقضي العجب ممن انساق وراء تلك الحسابات من غير تثبُّت، وبادَر إلى نشرها بلا تردُّد، دون الرجوع إلى المصادر الرسميَّة، والقنوات الموثوقة، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الْحُجُرَاتِ: 6].
أيها الناسُ: وثَمَّة فتنة تُفسِد القلوبَ في الخلوات، حينما يخلو المرء بالهاتف في الزوايا الخاليات، فينتهك الحرمات، ويشاهد المحرمات، مستخفا بأوامر الله، غير آبه بنواهيه، ناسيًا ما تجره تلك المناظر من أوبئة وأمراض، وانتهاك للأعراض، وضياع للأعمال والأوقات، وذهاب للحسنات، فعن ثوبان -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(رواه ابن ماجه).
عبادَ اللهِ: بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم فاستغفِرُوه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لطُرُق الفَلَاح، وأرشدَنا إلى سُبُل النجاح، وأنزَل في كتابه النورَ والرحمةَ، وجعَل في سُنَّة نبِيِّه الْهُدَى والحكمةَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، إخوةَ الإيمانِ: إن من أعظم النعم أن يفطن الإنسان لخلله قبل فوات الأوان، وأن يتنبه لقلبه قبل أن يستحكم عليه الران، فكم نحن بحاجة في هذا العالَم الرقميّ والضجيج التِّقنيّ إلى دواء لهذا التعلق المَرضيّ؛ وذلك بعزلة قصيرة، نطفئ فيها صخب الأجهزة، لا لنعتزل الحياة، بل لنعيد التوازن لما اختل من حياتنا، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما رأيت أنفع للقلب من عزلة يبصر فيها الإنسان عيوبه، ويتأمل فيها عواقب أموره".
عبادَ اللهِ: إن ديننا دين وسطية واعتدال، فاجعلوا للعبادة وقتًا، وللنفس حظًّا، وللأهل نصيبًا، فقد صدَق النبي -صلى الله عليه وسلم- قول سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنهما- حينما قال: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"(رواه البخاري)؛ فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا بأسباب النجاة، وتذكروا على الدوام أنكم عند ربكم موقوفون، وعن جوارحكم مسؤولون، قال -جل وعلا-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الْإِسْرَاءِ: 36]، فاغتنِمُوا أعمارَكم، واستغِلُّوا أوقاتَكم، فَمَنْ صدَق يقينُه جدَّ واجتَهَد، ومن قصر أمله تزود واستعد، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
عبادَ اللهِ: هذا وصلُّوا وسلِّموا على مَنْ أُرسِلَ بالحكمة والهدى، خير الورى، وأفضل مَنْ وَطِئَ الثَّرى، كما أمركم الله بذلك ربكم -جل وعلا-، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهمَّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ إنَّا نسألك التوفيق والسداد، لإمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، ولولي عهده الأمين، اللهمَّ اجزهما عَنَّا وعن البلاد والعباد وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
اللهمَّ انصر رجالَ أمنِنا، وجنودَنا على ثغورِنا، واحفظهم بحفظك، واكلأهم برعايتك، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهمَّ موتانا وموتى المسلمين.
اللهمَّ انصر المستضعَفين من المسلمين في فلسطين، وفي كل مكان، اللهمَّ اجعل لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، اللهمَّ اشف جرحاهم، واحقن دماءهم، واربط على قلوبهم، اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العليَّ العظيمَ الجليلَ الكريمَ يذكركم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم